فارس من بداوة الأردن .. حابس المجالي
د. محمد العناقرة
29-04-2013 11:00 PM
إن تأسيس الذاكرة الجمعية يفترض دوما منجزا يقتضي سمة الاستمرار، وفي تاريخ الأوطان العظيمة قصص تروى في سبيل بناء مسيرة تضيف للإنسانية ثراء في قيمها ومسيرتها. ونحن في بلد يوصف أهله بالطيبة وعنوانهم الكرامة في الرمز وهناك كرامة لهم في مواطن كثيرة تشكل ذاكرة لبطولاتهم يحتفون بها عندما يستذكرون عدالة معركتهم المصيرية وحبهم للذود عن قداسة ترابهم، من هنا يبدأ الكلام عن الأردن ليمدنا بذات وطنية خصبة نذرت نفسها لتؤمن دوما بهذه الروح العبقة الراسخة في وجدان الحق رسوخ جبال رم.
الأردن ولاَدة لرجالات عرًفوا العالم بأن الأمة العربية هي أمة عظيمة في رسالتها وثقافتها، رجالات كانوا دوما على العهد، فأوفوا بعهد الولاء ونذروا كل ما يملكون من الغالي والنفيس قربانا ليزيدوا من خلاله حبهم لوطنهم،رووا لنا عشقهم للأردن بقصص من الانجاز والعطاء ما زلنا نتغنى بها، فضلهم كبير لكن يقولون دوما إن الوطن لا تستطيع أن توفيه مهما نذرت له، فهو أكبر منا جميعا، وطن يمتد في الماضي ويسبر الحاضر ويرتقي الى المستقبل، فعين الزمان ترى هؤلاء دوما من شرفة عالية، فقامتهم تطال شرفة العز والسؤدد، رجال حقَ لهذا الوطن أن يحضنهم في كل زمان ومكان، ورغم كل ذلك لهم دين في أعناقنا نحن الكتاب والمؤرخين أن نضيء بمصابيح عطائهم دروب الأجيال القادمة، ونتغنى بهم أمام الدنيا.
إن الحديث عن المشير حابس المجالي هو حديث عن أحد رجالات الرعيل الأول الذين تبوءوا مسؤوليات كبيرة وكرس حياته جندياً مخلصاً شجاعاً مدافعاً عن ثرى الأردن. فهو علم من أعلام الأردن استطاع نقش اسمه بحروف من نور في تاريخنا المعاصر عبر مسيرته الحافلة بالشجاعة والكرامة والانتماء والتضحيات. إنه الرجل القائد الذي يصعب أن تؤرخ سيرته ومسيرة حياته، إنه الرجل الزعيم ببساطة خصاله وسمو أفعاله فالقيادة والزعامة عندما تجتمعان في رجل فإنما تصنعان منه رجلاً كبيراً فيه من شمولية المناقب والصفات ما يحتل مساحة أوسع من أن تفيها حقها الأحاديث.
الحديث عن أبي سطام هو السهل الممتنع فمن السهل الحديث عن شخصيته النقية والهادئة وعن نظافة مسلكه وخلقه وأصبح مشهوداً له بذلك. ولكنه كان الممتنع في الحديث عن نفسه أو الترويج لها أو السماح بالمس بكرامته أو كرامات الناس مهما اختلف معهم. فهو أحد الرجالات الذين بنوا الأردن وشيدوه وعمروه وحرسوه بدمائهم وترفعهم وسموهم وتساميهم.
ولد حابس ارفيفان المجالي في مدينة معان عام 1910 وتلقى دراسته الابتدائية في مدينة الكرك، وأكمل دراسته الثانوية في مدرسة السلطة الثانوية. وكان المشير حابس المجالي القائد الأشم الذي جسد معنى الرجولة وشرف العمل في ميادين المعارك.إنه البطل المغوار الذي تعرفه ساحات اللطرون وباب الواد ومشارف القدس الشريفة.وقد سار حابس باشا في طريق الرجولة ليكون أول ضابط عربي برتبة مرشح يحمل الرقم (47) في القوات الأردنية، يسير فوق ثرى الأردن وهو يخدم كل الأنحاء ويحمل في قلبه حب القيادة ووفاء الخدمة ولا شك بأنه قد اجتمعت فيه الرجولة والصدق والإخلاص وشرف العمل الذي كان للميدان وفي الميدان الاختبار الحقيقي.
فهو فارس من بداوة الأردن الطيبة فحين ضمته مدرسة السلط طالباً وضمته أرض عجلون والسلط وإربد وجرش ومعان قائداً وسار في دروب غزة وبئر السبع مقاتلاً ووقف في باب الواد يحمي القدس فحين كان حابس باشا كل ذلك كان القائد العربي الأصيل الوفي لأمته ووطنه.
حابس... هو التاريخ الذي بقي صامتاً يرفض الحديث عن بطولات صنعها وعن تاريخ سطرة بأحرف من رصاص عرفته أبواب القدس وباب المسجد الأقصى وروابي بيت لحم ورام الله ووقف إلى جوار مقام معاذ بن جبل وفوق الأرض التي سار عليها أبو عبيدة عامر بن الجراح، وعمر بن الخطاب وصلاح الدين ليخبره قادة زملاؤه "إنك يا حابس تجدد أمجاد الماضي وترسخ صورة التاريخ العربي الناصع" فقد احتل قلب الأردنيين بشهامة الرجولة وصفاء السريرة وحسن المحيا والعدل البديهي النابع من بياض القلب وعمق الرؤيا التي لا ترنو إلا إلى ما هو أندى وعمق البعيد الأعلى فالأعلى.
إن الكلمات غير قادرة على الإحاطة بتجربة شخص عام أعطى وطنه كل عمره وكان متميزاً بالولاء لوطنه وتميز بالفروسية فقد كان فارساً بالمعنى المطلق فهو لم يكن فارساً اردنياً ولا فارساً عربياً فحسب بل هو آخر فرسان الزمان.
ولذلك فإن المشير حابس المجالي يعتبر رمزاً أردنياً وعربياً فهو صاحب سيرة يفتخر بها الأردني ويعتبر صاحب مواقف جريئة وشجاعة ودوداً، محباً للآخرين إكتسب العفة والرجولة كابراً عن كابر صريحاً في قول الحق فهو رمز للعطاء والإنسانية لم يعادِ سوى أعداء الأمة. جرأته كانت لحد التضحية بنفسه وبكل ما يملك أمين حين يقتضي الأمر الأمانة بطل في المعارك لا يشق له غبار وأعداء الأمة شهود على ذلك.
فهو من الرجال الذين خدموا الوطن والأمة بصدق وأمانة وشرف لم يغيروا الطريق رغم كل الصعوبات التي تعرضوا لها، بالإضافة لذلك فقد كان للمرحوم حابس المجالي دور كبير في دعم ومناصرة الثورة الجزائرية (1954-1962) سواء عن طريق حملات التبرعات التي كان يدعو لها ويشرف عليها، وكذلك الإشراف على تدريب الضباط والطلاب الجزائريين في الكليات والمعاهد العسكرية والمشاركة في الكثير من المهرجانات التي كانت تعقد لمساندة تلك الثورة.
وكانت فلسطين بالنسبة لحابس الأرض التي لا أغلى ولا أحب وميدانه الذي تجلى به انتماؤه ومقداميته، والولاء عنده هو الولاء المشتق من خلق الفرسان ومن المبادىء والقناعات والولاء للقادة الهاشميين. ولا غرابة في كل ذلك فحابس هو الإبن الأبي للكرك الأبية، حاضنة التاريخ والفكر القومي، إنه البطل الوفي المخلص لأهله وقضايا أمته.
رحل حابس وهو يوصي بالأردن، الأردن الذي يتجسد في وجدان أبي سطام في أكثر من معنى، الأردن الذي لا زال يمثل لحابس الهوية والإنتماء والمستقبل والحاضر والماضي. والاردن الذي كبر في ذاكرة حابس المجالي عاش وتعايش معه، الاردن الذي شكل له ولأهله ذاكرة نضالية فيها من العمل النضالي الوطني ما يفسر لنا كيف تخرج الرموز الوطنية من رحم الوطن، وكيف هي العلاقة التي ربطت حابس باشا مع تاريخ الوطن لحظة بلحظة، فقد توحد دوماً مع الوطن أو في لحظة أضاع بها الآخرون متاهات وبقي الأقرب والأكثر التصاقاً بالوطن والقضية فمن حق كل الأردنيين أن يحملوا صوراً للرموز الوطنية وللرجالات الخالدة.
وقد التصق المرحوم حابس المجالي بالخدمة العسكرية عام 1932 بعد أن أكمل دراسته في مدرسة السلط الثانوية ثم تدرج في المجال العسكري إلى أن أصبح قائداً عاماً للجيش عام 1958 ووزيراً للدفاع عام 1969 وحاكماً عسكرياً عاماً وقائداً عاماً للجيش عام 1970، فقد نشأ المرحوم المشير حابس المجالي في كنف أسرة أردنية عشقت ثرى الوطن وكان سبيلها وطريقها للوحدة وحب الجهاد والكرم والجود فنشأ فارساً أردنياً عربياً يرى الجهاد طريقاً للخلاص من أعداء الأمة، وكان المجالي موضع الاحترام والتقدير في كل المواقع التي حل بها وخدم فيها في مختلف بقاع الوطن وبعد أن خاض عدة معارك في باب الواد. تم توقيع الهدنة الأولى في الحادي عشر من حزيران عام 1948، وفي نفس اليوم زار الملك المؤسس الشهيد عبد الله بن الحسين طيب الله ثراه الكتيبة الرابعة والتقى بالقائد الشجاع حابس المجالي وأثنى على جهوده وجهود الضباط وأفراد الكتيبة حيث قال جلالته للقائد حابس المجالي "إنك تقاتل فوق الأرض التي سار عليها عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وصلاح الدين وإنك اليوم تجدد أمجادهم".
وقد كلف جلالة المغفور له الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه المشير المجالي ليقود الجيش العربي في عدة فترات عصيبة كانت فيها الديار الاردنية تتعرض لتحديات مختلفة.
وكان حابس المجالي قد خرج إلى فضاء الوطن الأردني الكبير ومعه زاد من غضب الكرك وكتاب من صبر الجنوب وحلم بأن تترسخ الدولة الأردنية القومية حتى ترد عن الأمة العربية شر الاستعمار وخطر الغزو الصهيوني، فالاردن بالنسبة لحابس المجالي ذلك الكيان الذي بناه جيل من الرجال الأوائل الأبطال والقادة والمفكرين والسياسين الذين طبقوا القاعدة التي تقول أن الوظيفة تكليف وليست تشريف، فهو عروبي النشأة والتطلع، لكنه أعطى الأولوية للوطن الاردني فالاردن هو محور الاهتمام باعتباره النقطة لأقرب والسبيل الوحيد للوصول إلى الأولويات الأخرى.
المشير حابس المجالي سهم في كنانة بني هاشم ما انتمى لغير لهيب النار عُرف عبر مسيرة الوطن الخيرة ضابطاً مقداماً وقائداً فذاً رابط الجأش ثابت الجنان، أبا حانياً، مترفعاً أبداً عن الصغائر صاحب القلب الكبير والحضور المهيب ظل على ما هو عليه إخلاص بلا منّه ووفاء بلا حدود، عزيمة يلين لها الصخر ولا تلين كان الجندي المخلص الأمين الذي ما تأخر يوماً عن وطنه وأهله ومليكه فقد عاش شهماً ما رمى إلا لكل فعل مشرف ولم يكتفِ بالقول بل بالفعل.
كان -رحمه الله- فارس لم يترجل عن صهوة جواده حتى لا يجف الصهيل في رئة الخيول، خاض وزملاؤه من فرسان الجيش العربي غمار المعارك في فلسطين وظل يحرس أحلام الأمة في باب الواد واللطرون وعمواس واستطاع رغم شح الإمكانات وقلة السلاح أن يحفظ ما استطاع من أرض فلسطين ويكبد العدو أفدح الخسائر رحم الله القائد البطل المشير حابس إرفيفان المجالي وأسكنه فسيح جناته.