قبل اجتياح بيروت عام 1982 كان الشاعر خليل حاوي قد رأى كزرقاء اليمامة الدبابات تقترب وكتب في ذروة يأسه:
الجماهير التي يعلكها دولار نار
من أنا حتى أردّ النار عنها والدّوار؟
عمق الحفرة ياحفار عمقها لقاع.. لا قرار!
وما أن وصلت الدبابات تحت شرفة بيته حتى اصطاد قلبه ببندقية صيد، وهكذا حقق النجاح من أن يرى ما رأينا جميعا.
والفرد حتى لو كان عبقريا أو فريد زمانه هو مجرد عازف منفرد وأوتاره هي شرايين القلب، فقد يرى اكثر من سواه وقد يقرع الجرس لكن بلا جدوى، لأن العيب ليس في الرنين بل في الاذان التي حشيت طينا وعجينا.
وإذا قدر للعربي المسجى الان في غرفة الانعاش ان ينجو من الموت القومي سريريا فقد يحتاج الى عدة اعوام لاحصاء خسائره.
فقد عواصم عريقة، ورجالا ونساء واطفالا، مثلما فقد الماء الذي قد لا يجد منه ما يكفي لغسل موتاه وفقد حتى آثار أسلافه حيث دمرت الاطلال، وفاض خراب الحاضر على الماضي ليعيد قتله وعلى المستقبل ليحول دون اقباله.
إذا قدر له ان يصحو فقد يصاب بالجنون لانه فعل كل هذا بنفسه؟ فهو براقش التي جنت على نفسها وأبنائها حتى أحفاد أحفادها، فالطفل العربي الآن يولد من رحم أمه مدينا بعشرات الألوف من الدولارات. والشيخوخة تنخر في كل شيء من المعمار الى الاشجار مرورا بذهنية سياسية احترفت تكرار الاخطاء رغم انها تقول في بعض المناسبات ان التكرار يعلم الحمار!
ولا نعرف حمارا او بغلا او اي كائن حي فعل بنفسه ما فعلناه نحن بانفسنا. بحيث تبدو اللوحة الشهيرة للرسام الاسباني جويا كما لو انها رسمت عنا، حيث يشتبك رجلان فيما تغوص اقدامهم في دوامة ولا ينتبهان لما يحدث لهما الا بعد فوات الاوان.
الفرد قد يثقب الفولاذ برؤياه وقد يصرخ منذرا قومه حتى يتفصد الدم من شرايين عنقه، لكن صيحاته تذهب سدى، لان لا حياة لمن ينادي. وبراءة الاختراع التي حققها العربي المريض هي اكتشافه بأن عدوه هو من جِلدته وان سوس الخشب من الخشب ذاته، لهذا قرر ان يبدل وجهة السلاح، وهو لا يدرك بأنه ينتحر حتى لو كانت الفوهة متجهة لتوأمه اللدود. وفي ذروة الاقتتال البسوسي على طريقة ايام العرب الاولى يصل التسامح مع الغزاة الى أقصاه، فهذه المرة لم يذبح حاتم الطائي فرسه لضيوفه بل لمن خلعوا باب بيته واستباحوا ابنته سفانة وحولوا كل بنات قبيلته الى سبابا!
لقد انتحر خليل حاوي عشية ذلك الاجتياح ليبلغنا رسالة هي اننا لا نستحق أمثاله.لاننا مستعدون لان نغمس الرغيف في دمنا وماء وجوهنا وعرق اطفالنا المصابين بالتهاب السحايا.
إذا قدر لهذا المسجى بين ماءين ان يصحوا من غيبوبة لا نعلم درجتها فلا أحد يدري ما الذي سوف يفعله بنفسه فإن أكل أصابعه ندما لن يستطيع الكتابة والشهادة والإدانة.وإن قرر إحصاء ما خسر لما وجد حاسوبا يجمع أرقاما فلكية.
شكرا ياخليل، فلم تكن حاويا لكن قومك حواة، ومن يهجع مثلك في حفرة بلا قرار سعيد لانه لم يرَ ولم يسمع ما حدث منذ ذلك الاجتياح حتى هذا الانتحار القومي!
الدستور