موضوع الرقابة على دستورية القوانين , موضوع واسع ومتشعّب , وقد سبق أن عولج برسائل لنيل الدكتوراة . ولذلك نحن في هذه المقالة , سنعالج فقط دور محكمة التمييز في الأردن , في مسألة الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة .
وفي هذا الإطار نذكر أن الدستور الأردني في المواد 58 إلى 61 , وكذلك قانون المحكمة الدستورية , قد أعطيا الولاية العامة في الرقابة إلى المحكمة الدستورية . ولكن ما هو دور محكمة التمييز في عملية إيصال هذه الدعوى إلى المحكمة الدستورية ؟
نقول ومن فهمنا للنصوص ذات الصلة , أن الصلاحية الممنوحة لمحكمة التمييز , تتركَّز في فحص جدية الدفع من عدمه . فإذا وجدت الدفع جدياً , أحالته إلى المحكمة الدستورية , وبعكس ذلك أعادته إلى مصدره . وأكثر الدفوع التي تتصف بعدم الجدّية , هي الدفوع التي يقصد منها تطويل أمد الدعوى . حيث يلجأ بعض المحامين للدفع بعدم الدستورية , فتوقف حينئذ الدعوى الأصلية إنتظاراً لصدور حكم بالدعوى الفرعية . وتخوفاً من هذا المحظور , وخشيةً من أن تتراكم القضايا غير الجدية أمام المحكمة الدستورية , وهو الأمر الذي يؤدي إلى إرباك تلك المحكمة , وشغلها بقضايا لا يجب أن تنظرها , إرتأى المشرع ألا يترك هذه القناة مفتوحة بالمطلق , دون وجود مصفاة لوقف الشوائب , فمنح محكمة التمييز صلاحية التصفية . وحسبي أن المشرع أراد أن يقول لأُولئك الذين يثيرون الدفوع بعدم الدستورية خبط عشواء , تريثوا قليلاً , فهناك رقابة سوف توقف كل دفع يستبان بشكل واضح أنه ليس جدياً .
وفي هذا السياق, فإن إستبيان جدية الدفع من عدمه , لا يحتاج إلى كثير من الجهد والعناء ,فلدينا القناعة , أن قاضيا منفردا من قضاة محكمة التمييز يستطيع - لما يتمتع به من حنكة وخبرة وحصافة وعلم ومعرفة قانونية – أن يميّز الجدية من عدمها .
مما تقدم نقول إن مهمة محكمة التمييز في موضوع الرقابة على دستورية القوانين , هي مهمة إجرائية بحتة , تتعلق بجدية الدفع من عدمها , ولا يجب أن تتعدى إلى البحث في موضوعية دستورية القانون المطعون بدستوريته . ولا نشك للحظة أن المشرع قد سعى إلى غير هذا الإتجاه , والسبب في ذلك أن المشرع قد اشترط – دستورياً وقانونياً – شروطاً فرضها على المحكمة الدستورية , صاحبة الإختصاص , شروطاً تتماشى مع أهمية الدعوى التي تتعلق بإلغاء قانون أو عدم إلغائه . والدستور والقانون لم يفرضا أياً منها على محكمة التمييز , لأنها ليست ذات صلاحية في الرقابة الموضوعية على دستورية القوانين.
أما الشروط التي فرضها القانون على المحكمة الدستورية دون غيرها , فتتلخص بالتالي :-
أولاً : عدد أعضاء الهيئة : فيما يتعلق بعدد أعضاء الهيئة الحاكمة , اشترط قانون المحكمة الدستورية في المادة (19) على أن « تنعقد المحكمة عند النظر في الطعن أو طلب التفسير المقدم لديها بهيئة من تسعة أعضاء على الأقل , وفي حال تغيب عضو أو أكثر ..... فتنعقد بحضور سبعة من أعضائها , على أن يكون من بينهم الرئيس أو من ينوب عنه « . أما فيما يتعلق بمحكمة التمييز فقد قرر القانون في المادة (3/11) « لغايات البت في أمر الإحالة , تنعقد محكمة التمييز بهيئة من ثلاثة أعضاء على الأقل « .
ولنا أن نلاحظ أن القانون اشترط في هيئة المحكمة الدستورية – لأنها صاحبة الإختصاص – أن تكون من سبعة أعضاء على الأقل , في حين اكتفى في هيئة محكمة التمييز أن تكون من ثلاثة أعضاء . وفي هيئة المحكمة الدستورية , اشترط أن يكون رئيس المحكمة أو من ينوب عنه من بين الأعضاء ، في حين لم يشترط ذلك في هيئة محكمة التمييز .
ثانياَ: الأغلبية المطلوية لإصدار الحكم : أما فيما يتعلق بالأغلبية المطلوبة في إصدار الأحكام اشترطت المادة (19) من القانون على المحكمة الدستورية أن « تصدر أحكامها وقراراتها بأغلبية خمسة أعضاء ، وعند تساوي الأصوات يرجح الجانب الذي صوّت معه الرئيس أو من ينوب عنه « . أما فيما يخص محكمة التمييز ، فلم يشترط القانون أية أغلبية ، وكل ما نص عليه في المادة (3/11) أن « تنعقد محكمة التمييز بهيئة ثلاثة أعضاء على الأقل « . والقواعد العامة تقضي بأن أغلبية الثلاثة أعضاء هي اثنان ، وقد لا يكون رئيس المحكمة أو من ينوب عنه من بينهما , لأن النص لم يشترط ذلك كما فعل في شأن المحكمة الدستورية .
ثالثاً : تسبيب قرار الحكم : فيما يخص تسبيب قرار الحكم ، ألزمت المادة (14) المحكمة الدستورية أن « تصدر المحكمة أحكامها مسببة بشأن الطعون المقدمة إليها وفق أحكام هذا القانون « وفي هذه النقطة لم يشترط القانون على محكمة التمييز التسبيب في هذا الإطار, وكل ما نصت عليه المادة (3/11) هو أن على المحكمة « إذا وافقت على الإحالة تقوم بتبليغ أطراف الدعوى بذلك « . والقانون لم يطلق على « الموافقة على الإحالة « صفة الحكم ، وهو ما يوحي أن المسألة لا تعدو أن تكون مسألة إجرائية فحسب ، وهي بالتالي لا حاجة إلى أي تسبيب.
رابعا : صفات المحامين : أما من حيث صفات المحامين الذين يحق لهم التقدم بمذكرات لدى المحكمة الدستورية ، فقد اشترطت المادة (3/12) من القانون ، أنه « لا يجوز تقديم المذكرات ........ إلا بوساطة محام إستاذ مارس المحاماة لمدة خمس سنوات ، أوعمل في وظيفة قضائية لمدة مماثلة قبل ممارسة التمييز, وحسب نص المادة (أ /11) من القانون ، يجوز « لأي من أطراف دعوى منظورة أمام المحاكم ......... الدفع بعدم دستورية أي قانون أو نظام واجب التطبيق على موضوع الدعوى « . وهذا النص يعطي الحق لأي محام أستاذ ، ولو كان في اليوم الأول من أستاذيته ، أن يطعن بعدم الدستورية . ولسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لاكتشاف العلة التي تكمن وراء هذا التفريق .
خامسا : الجهات التي تحيل الدعاوى : نظراً لأهمية النتيجة النهائية التي تترتب على الدفع بعدم الدستورية والتي يجب أن تقضي بها المحكمة الدستورية – اشترط القانون في المادة (3/11) على أن الجهة القضائية الوحيدة التي يحق لها إحالة الدفع إلى المحكمة الدستورية ، هي محكمة التمييز دون غيرها . في حين منح المشرع في المادة (11) من القانون ، جميع المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها ، الحق بإحالة الدفع بعدم الدستورية إلى محكمة التمييز، وهذا التفريق في الجهات التي يحق لها إحالة الدعاوى , لم يكن من قبيل العبثية , وإنما كان مردّه لاختلاف الإختصاص بين المحكمتين في هذه المسألة .
سادسا: النص الدستوري: إختصاص المحكمة الدستورية ,إختصاص من الأهمية بمكان ، نظرا للآثار التي تترتب على كل حكم من أحكامها وبخاصة ذلك الحكم الذي يقضي بإلغاء قانون لعدم الدستورية ، وما ينجم عن ذلك ، بالنسبة للمعاملات التي تمت في ظلِّه « مثال ذلك قانون المالكين والمستأجرين»
ونظرا لهذه الأهمية ، فقد ارتأى المشرع الدستوري أن ينشئ هذه المحكمة بنصوص دستورية ، ( إرجع إلى المواد 58 إلى 61 من الدستور) وحيث أن محكمة التمييز ليست لها صلاحية النظر موضوعاً في الدفع بعدم الدستورية ، لم يأت أي ذكر لها في نصوص الدستور التي عالجت مسألة الرقابة ، لا لسبب إلا انها ليست شريكة بهذه المهمة , وكل ماذكرته المادة ( 2/ 60 ) من الدستور أنه « يجوز لأي من أطراف الدعوى إثارة الدفع بعدم الدستورية , وعلى المحكمة إن وجدت أن الدفع جدِّي , أن تحيله إلى المحكمة التي يحددها القانون لغايات البت في أمر إحالته إلى المحكمة الدستورية « مع كل هذا الذي تقدم , كان على محكمة التمييز أن تقرأ الخطاب القراءة السليمة , بحيث تعتبر أن قرار البت بالإحالة الممنوح لها , ماهو إلا قرار إجرائي , ولا يرتقي إلى حد الرقابة الموضوعية على دستورية القوانين .
غير أن محكمة التمييز ذهبت إلى غير ذلك , فسمحت لنفسها بالرقابة الموضوعية , فإذا وجدت أن القانون لايخالف الدستور – من وجهة نظرها – لم تحله الى المحكمة الدستورية , وإعادته الى مصدره . وهي بذلك تحكم بدستورية القانون المعاد . أما إذا وجدته مخالفاً للدستور , أحالته إلى المحكمة الدستورية .
بهذا الإتجاه تكون محكمة التمييز قد دخلت في دوامةٍ , يمكن الخلاص منها بالعزوف عن التكييف الذي تبنّته حيال دورها في مسألة الرقابة .
وفي هذا السياق نذكـّر بما آلت إليه قضية قانون المالكين والمستأجرين , حيث قضت محكمة التمييز في أول دفع أحيل إليها , بإعادة القضية إلى محكمة صلح العقبة , بعد أن فنّدت الدفوع واحداً واحداً , ووصلت إلى أن المادة موضوع الطعن هي دستورية , وأن جميع الدفوع لاتخرج من حيث النتيجة عن كونها كلاماً مرسلاً , لكن حينما ثار الدفع بعدم دستورية ذات المادة مرةً ثانية , صححت محكمة التمييز موقفها , وأحالت الدعوى إلى المحكمة الدستورية , التي قضت بدورها بعدم دستورية تلك المادة .
وإذا كان الأمر كذلك , لاندري لماذا تصر محكمة التمييز على اختطاف جزء من صلاحيات المحكمة الدستورية , مستغلة عدم حصافة المشرع الذي لم يكن بارعاً في رسم حدود الصلاحيات بين المحكمتين , بحيث أتاح الفرصة للقول بوجود محكمتين دستوريتين على رأي زميلنا الأستاذ الدكتور ليث نصراوين . يجري هذا مع التذكير بأن تعداد الدعاوى التي تنظرها محكمة التمييز , تساوي مئات الأضعاف من تلك التي تنظرها المحكمة الدستورية .
وفي النهاية وانتظاراً للوصول إلى حل قضائي أو تشريعي لهذه المسألة , نهيب في المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها , عدم التهاون في الإستجابة إلى الدفع بعدم الدستورية إبتداءً , إلا إذا كانت هناك شبهة جدية وحقيقية بعدم الدستورية , ولايجب أن تخشى من مغبةّ عدم تحقيق العدالة , لأن أحكامها في النهاية قابلة للطعن , على عكس الوضع فيما يتعلق بأحكام محكمة التمييز غير قابلة للطعن .
الرأي