حازت حكومة د. عبدالله النسور على الثقة النيابية. وهي نهاية مشابهة لما حدث في "مسرحيات" الثقة المعتادة خلال المجالس السابقة. ذلك لا يعني أنّ المياه راكدة، بل هي تسير تحت أقدامنا. وفصول المشهد ما تزال تتطوّر، وتتدحرج معها أزمة سياسية مقلقة، مغموسة بأزمة اقتصادية أصعب.
يمكن تلخيص أهمّ المعطيات التي حملتها جلسات الثقة، في خطوط رئيسة:
- أنّ التيار الإصلاحي ما يزال مشتّتاً غير متوافق على أجندة واضحة، ولا أجوبة عن أسئلة مهمة ومصيرية؛ مثل أولويات الإصلاح، وسؤال المواطنة والهوية، بينما التحول الجديد المهم هو في موقف التيار المحافظ، والنخبة التي تمثّله داخل البرلمان، والتي كانت أعلى صوتاً وأكثر شراسة في الهجوم على حكومة النسور، وعملت على قولبتها في "طور المحاصصة" واللبرلة. وهو "موقف" سيتطوّر في الأيام المقبلة خارج القبّة، ويوسّع من حجم ومساحة "التصدّع" داخل القاعدة الاجتماعية الواسعة التقليدية الموالية للنظام.
- ربما اضطرت مؤسسات الدولة إلى دعم النسور في اللحظات الأخيرة الحرجة. ذلك ليس لشخصه، بل لضرورات "مطبخ القرار" لأسباب متعددة. ففي النهاية، يمثّل النسور "الخيار الوحيد" المضمون حالياً، وربما تكون قلوب العديد من النخب في داخل "السيستم" ضد النسور، ومع خطاب النخبة المحافظة داخل البرلمان.
- أكثر ما أحزنني وآلمني في خطابات عدد من النواب (القومجيين) واليمينيين، هو الموقف المؤيد لنظام بشار الأسد السفاح، في استهتار سافر ومخجل بمشاعر الشعب السوري الذي يُقتّل ويُذبح ويُعتقل وتنتهك أعراضه. فهنالك بون واسع بين تأييد هذا النظام المجرم، وبين رفض التدخل العسكري الخارجي. وهو موقف يعكس بصورة جوهرية حقيقة أنّ عدداً كبيراً من النواب الذين وصلوا إلى قبة البرلمان لا يؤمنون حقّاً بالديمقراطية، أو لا يعرفون معناها ولا شروطها ومقتضياتها!
- الصدمة الحقيقية لنا، تمثّلت في المستوى البدائي الضحل لأغلب البيانات والخطابات النيابية، وتجوّف المضمون السياسي والفكري، إلا من بعض الكلمات التي جاءت ناضجة عميقة متسقة، سواء اتفقنا معها أو اختلفنا.
- بالرغم من خيبتنا من الأغلبية النيابية، مؤيدين ومعارضين، إمّا لضحالة الخطاب، أو بسبب البحث عن الشعبوية الرخيصة المكشوفة، أو لاستمرار منطق "الصفقات من تحت الطاولة"، أو نتيجة استمراء بعض النواب لأسلوب التهريج والردح المسيء، إلاّ أنّ هنالك نخبة من النواب الذين أثبتوا تناغماً وانسجاماً مع قناعاتهم، مثل أمجد المجالي الذي حجب الثقة عن الحكومة التي يمثّل شقيقه أحد أعمدتها المهمة، ووفاء بني مصطفى، وتمام الرياطي.
- من أسوأ ما كشفت عنه جلسات الثقة، أيضاً، حالة اللغة العربية لدى نوابنا الكرام. وهو وضع يرثى له فعلاً؛ يصيبنا بالحزن والأسى على مخرجات تعليمنا الذي تدهور إلى هذا المستوى. إذ يصل شخصٌ إلى مرتبة الدكتوراه، أو يجتاز المرحلة الجامعية الأولى، وهو ينصب الفاعل ويرفع المفعول، ويجر المبتدأ، وبعضهم لا يستطيع تركيب جملة واحدة مفيدة، فلا يميّز بين المذكر والمؤنث، ولا المفرد والجمع!
- ربما ما نحتاج إلى مناقشته في ضوء هذا المشهد، هو الوضع الاجتماعي والثقافي عموماً. فإذا كنّا لا نستطيع أن نفصل "النوعية الراهنة" من النواب عن مخرجات قانون الانتخاب المدمّر، ولا عن السياسات الرسمية التي أوصلتنا إلى هذا الدرك، إلاّ أنّنا في النهاية يجب أن نعترف أنّنا نتعامل مع أزمة أوسع من المشهد البرلماني، تضرب المجتمع والدولة والتعليم، وعنوانها الرئيس: أزمة القيم والأخلاق، وازدواجية المعايير. فعدد كبير من هؤلاء النواب نحن من أوصلناهم؛ فالمشكلة فينا، وذلك يحتاج منّا أن نعيد قراءة مجتمعنا، وما وصل إليه، بعمق وموضوعية!
m.aburumman@alghad.jo
الغد