سأنظم هذا الأحد إلى قافلة الكُتاب الذين تناولوا موضوع الثقة بالتحليل والتنبؤ؛ لما له من حيز تداول شعبي ورسمي واسع و ارتدادات مختلفة في كلتا حالتيه، حصول الحكومة على "إجازة ممارسة أعمالها" التي تحدثت عنها في بيانها الوزاري. أو عدم حصولها على تلك الإجازة المعروفة بثقة مجلس النواب. بالاستناد إلى مجموعة المؤشرات التي رافقت وترافق العملية برمتها، ابتداءً من حالات سابقة مماثلة لاحظنا فيها مسافة بين النص والتطبيق من قبل النواب كلماتهم وتصويتهم ، ثم مقدمات غير رسمية كانت عبارة عن تصريحات صحفية أو تلفزيونية أو تداولات مجالسيه سرية أو علنية، إلى انتقادات لاذعة تحت القبة يرافقها شيء من المصداقية عندما تتلازم وحجب الثقة أثناء إلقاء الكلمات. يضاف إلى ذلك الاختراقات التي قد تؤثر على اتخاذ النواب - خاصة الجدد - لقرارهم سواءً من داخل المجلس كحراك الأقطاب بالمجلس و الذي أراه يدفع إلى الحجب عن الحكومة، أو مصادر خارجية تدفع باتجاه المنح ثبت لدى الأردنيين جدواها في أحيان وعدم جدواها أحياناً أخرى أسماها الأردنيين تندراً بــ " الاستعانة بصديق ".
طبيعة مجتمع مجلس النواب السابع عشر تُعقّد المشهد وتجعل الدقة في التنبؤ أقل حضوراً نظراً لحجم المجلس من حيث العدد، والتركيبة المتنوعة من حيث الفكر على امتداد تبايناته، و الأمزجة، والفروق في الأعمار بشكل لافت، وبالتالي حجم الخبرة وبالذات عند التطرق للخبرة النيابية. فالحيرة والخوف تلفان أعضاء مجلس النواب في ظل وجود قلة خبرة نيابية لعدد كبير من أعضائه الجدد، إضافة إلى لعنة (111) التي ترافق المجلس والتي ساهمت الحكومات السابقة بإيقاعها بقصد على مؤسسة مجلس النواب، كما يأتي الخوف من الحل هاجساً والذي أراه غير مطروح بشكل رسمي ودستوري حتى وإن سقطت هذه الحكومة.
فالمجلس الحالي يتكون من ثلاث تيارات نيابية فيما يخص المنح من عدمه، التيار الأول يميني محافظ ، يتميز بسطحيته السياسية وعمقه الشعبي، ويسعى إلى القبول و بقاء الأمور كما هي عليه و بالتالي التعاطي مع هذا الموضوع ضمن إطار مرن فضفاض يكاد يخلو من النكهة السياسية ويدفع باتجاه منح الثقة ، أما التيار الثاني فهو يساري يقوده الراسخون في العمل النيابي ، الذين يتقاطع مع الرئيس الجديد إما فكرهم وتوجهاتهم أو مصالحهم، ويتمتعون بخبرة نيابية وسياسية واسعة، ويدفعون باتجاه الحجب بشكل سري أو علني . أما التيار الثالث فهو تيار معتدل وسطي، وهو الأكثر تمثيلاُ للنواب حالياً، حيث يتمتع أعضائه بالقدرة على المراوغة بين طرفي المعادلة السياسية، "الشعب والحكومة" كما يجمعون بين السياسة والاجتماع، ويدفعون باتجاه منح ثقة محدودة ومشروطة.
وكما ظهر من ردود النواب على البيان الوزاري ، فالغالبية منهم تربط منح الثقة من عدمها بإجابة الرئيس على العديد من المطالب التي تقدم بها النواب، الشعبية المعيشية منها و السياسية الإصلاحية ، والجُملة التي لا يكاد يخلو منها خطاباً واحداً هي المطالبة بـ "عدم رفع أسعار الكهرباء" ، وبالتالي قدرة الرئيس على إيجاد مخرج من هذه الأزمة ستجعل منه " سوبرمان الأردن ".
ولكن السؤال هنا هو كيف يمكن التملص من شروط صندوق النقد الدولي أو الالتفاف عليها ؟ فالأردن أهم من أن نظهر ملتزمين، لأنه باعتقادي وأرجو أن يكون خاطئاً لن يكون سقوط هذه الحكومة وحده هو النتيجة الطبيعية والوحيدة للرفع ، فلا زالت " هبة نيسان" حاضرة لدينا وأختها " تشرين"، ويجب عدم التقليل هذه المرة بالاستشهاد بما حصل مع الهبة الأخيرة والقدرة على احتوائها وتوجيهها. لأن الخوف هنا يكمن في عدم القدرة على التنبؤ بمحدودية هبة مماثلة في "حزيران" موعد إعلان الرفع، فالمفارقات عديدة وتتجه نحو الأسوأ، فقد يكون لتنامي الاحتقانات السياسية والاجتماعية خلال الفترتين (من تشرين إلى حزيران) دافع نحو تفاقم الأوضاع، إلى جانب عدم قناعة قوى سياسية بالإصلاحات التي تمت إلى الآن معبراً عنه ما شاهدناه في مسيرة الجمعة الفائتة من تغييراً في التعاطي مع شكل المسيرات التي أخذت شكل مسيرات المليشيات وهذه رسالة سياسية يراد التلويح بها للتعاطي بشكل أكبر مع مطالبات الإصلاح . يرافق ذلك ارتفاع منسوب الاتهامات السورية للأردن وما يصاحبها من استغلال للأوضاع، إلى جانب أن رفع أسعار الكهرباء لن يرافقه دعماً مادياً يخفف ردة الفعل الشعبية كما هو حال المشتقات النفطية.
ماذا سيفعل الرئيس أمام هذا الثالوث المرعب، الثقة، الكهرباء، القرض ؟ تداخل مثير يمكن حله عن طريق حصول تغييراً دراماتيكياً خليجياً في مساعدة الموازنة الجريحة. وبالتالي التخلص ولو مرحلياً من شروط البنك الدولي القاسية بحق الأردن إلى حين تناول الموضوع بهدوء وروية. و ماذا لو تم الإعلان عن زيادة الدعم الموجه إلى الشريحة ذاتها التي تم دعمها من قبل عندما تم رفع الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية في سياق طرح بدائل تخفف من آثار الرفع.
عودة إلى موضوع الثقة وتداعياتها على النائب وعلى الوزراء و الرئيس بشكل أكبر ، فيما لو تم المنح هل ستكون مشروطة تسقط بمخالفة شروطها أم أن حالها سيكون كمثيلاتها ثقة على الإطلاق المعهود ؟ أتفق مع أغلب المؤشرات التي تذهب باتجاه " الثقة الموقوتة " والتي تكاد تتجاوز النصف بقليل وهذا من شأنه أن يُلطّف النظرة الشعبية تجاه نوابهم، سيما وأن عدداً من النواب رمى كرة الثقة بمرمى ناخبيه، وبالتالي التحرر من الحرج الذي قد يتشكل لاحقاً نتيجة حجبه للثقة باعتباره منحازاً لرغبة ناخبيه ، كما يجعل منه نائباً متواصلاً مع قاعدته الانتخابية ومرتهناً لشعبية قراراتها في قضايا ذات بعد شعبي . الأمر في آخره يعد قراراً لمجلس النواب بغض النظر عمن حجب أو منح، وأعتقد بأن مهندسي العمل النيابي يريدون الخروج بصيغة نيابية توافقية تظهر تماسكاً نيابياً في التعاطي مع الحكومة ، ونوعاً من الضبط والسيطرة على أداء النواب فيما يخص السلوكيات والثقة ، تبعاً لمتغيرات الخبرة والنظرة الشعبية كما أسلفنا.
ولكن فيما يخص الحكومة ، فإلى أي درجة ستكون متحررة من هاجس إعادة طرح الثقة بها في "حزيران " كما لوّح البعض، وكيف سيؤثر ذلك على أداءها خلال هذه الفترة في ظل الأجواء المشحونة بكهرباء عالية ؟ إلى جانب تعدد الحقائب الوزارية وأثرها على أداء الوزير وهنا قد يبدو للبعض بأن الوزراء متعددي الحقائب هم أوفر حظاً من بقية زملائهم الوزراء في البقاء عند التعديل المرتقب ، على العكس تماماً فإدارة أكثر من وزارة يشتت العمل وبالتالي يظهر سوء الأداء وبذلك يكون هذا الوزير عُرضة للتغيير تبعاً " لبرنامج الدمج النيابي للوزارة " أكثر من غيره باعتبار فشله في وزاره سينسحب على أختها ، وعلى اعتبار أن وزيراً واحداً يفتح المجال أمام نائبين أو أكثر.
adel.hawatmeh@gju.edu.jo