في مثل هذا الشهر ( نيسان ) رحلت أمي عن هذه الدنيا, و بعد صراع طويل و شرس بينها و بين المرض , و عندما شعرت أن الموت اقترب منها و لا مفرّ قالت : لقد سقطت الورقة يا ولدي ..!!
و لغريب الصدف أن والدي توقف قلبه الكبير في هذا الشهر أيضاً , و يزيد من حزني أيضاً أن بغداد قلب العروبة سقطت في هذا الشهر كذلك و أن مذبحة دير ياسين على يد الصهاينة كانت في هذا الشهر الكريه .
في هذه العُجالة الصحفية و في هذه الذكرى أقول : لقد ماتت أمي في هذا الشهر لكن أحفاداً لها ولدوا في هذا الشهر أيضاً.؟! والدتي .. أكتب عنك وأتذكرك وأستحضر عينيك الواسعتين الجميلتين أبداً ، كيف يستطيع الإبن أن يكتب عن أمه وهو لا يصدق أن وجهها المتألق والرحب قد غادر المكان هنا في الأشرفية والياسمين والورود والدوالي والتين والميرميه التي زرعتها بيديها الساحرتين حول دارنا وفي فنائها..؟ في هذه الأيام النيسانية المزهرة كانت من أجمل أيام أمي، لقد كان أعز اللحظات لديها نمو البراعم والأوراق في بستاننا الصغير والجميل .
كانت ورغم أنها «لا تفك الحرف» تعرف كل ما يجري في هذه الدنيا , كم فرحت بإنتصار المصريين في بورسعيد وقناة السويس العام 1956 وأعتقد وأن روحها فرحة الآن لإنتصار «الشباب» في معركتهم الأخرى في ميدان التحرير وكم فرحت لإنتصار الفيتناميين وتوحيد بلادهم وقبلها إنتصار الجزائر وإستقلالها ووحدة مصر وسوريا ومعركة الكرامة وأحداث عربية وعالمية أخرى، كما آلمها حرق المسجد الأقصى ومذابح صبرا وشاتيلا وقانا وقصف بغداد بالطائرات والصواريخ العام 1991 .
كانت أمي مستقيمة ومتدينة دون ضجّة ، متميزة في لباسها وأناقتها دون إسراف وبهرجة ، ومع أنها كانت لا تسكت على مظلمة إلا أنها كانت تلوذ بالصمت الذي يشبه الصمت «المريمي» في العديد من الأزمات التي لا تستطيع وحتى أبي ونحن أولادها وبناتها حلها، كما كانت تتحلى بكبرياء الكتمان وحمل همومها في طيات الضلوع ، من دون أن تبدر منها آهةً عاتبة او نظرة يائسة .
لم تكن " ست الدنيا "كما يحلو لأختي الصغرى أن تناديها بهذا الاسم فتفرح لهذا النداء أيما فرح ، لم تكن أماً لي ولأخوتي وأخواتي فحسب بل لكثيرين وكثيرات في مقدمتهم زوجات أبنائها وأزواج بناتها فقد رأت فيهم أولادها وبناتها الذين لم تنجبهم ، وعندما ينشب أي خلاف بين أي ابن لها مع زوجته كانت تستطيع تحويل نار الغضب والإنفعالات إلى برد وسلام مطفأةً هذا الغضب «بوليمة» تدعونا جميعاً إليها ودائماً تكون ألذ ألف مرة من الولائم التي تناولتها في أفخم وأرقى المطاعم والفنادق المحلية والعالمية.
كم هو صعب الكتابة عن سيدة كهذه فكيف إذا كانت هذه السيدة قطعت دروباً صعبة وقاسية دون أن تطأطئ الرأس حاملةً في قلبها وجسمها كل الطموحات والآمال، وقد أكملت دربها حتى الشوط الأخير.. وليرحمها الله...
ماذا أقول : ( نيسان ) .. كم أكرهك ..!!
Odeha_odeha@yahoo.com