بينما كان أبو بكر البغدادي (زعيم قاعدة العراق) يعلن قيام الدولة الإسلامية في العراق والشام، بدمج مجموعته مع جبهة النصرة السورية، وكان يحذّر في خطابه من خطورة الديمقراطية، ومن أن تكون نتيجة التضحيات بالدماء وانتهاك الأعراض هي النظام الديمقراطي؛ في الوقت نفسه، كان أبناء التيار السلفي الجهادي في الأردن يتظاهرون على الدوّار الرابع، يتنفسّون ما أتاحه الربيع العربي لهم من مناخ (محدود) من الحرية، ويطالبون بالإفراج عن معتقليهم وبحقوقهم الإنسانية!
هذا مثال واحد من أمثلة هائلة على تناقض مواقف قوى وأحزاب عربية تجاه الديمقراطية. فالكل يحاول توظيفها بما يخدم مصالحه ومواقفه، لكنّه سرعان ما يتخلّى عنها عندما يتمكّن من السلطة أو القوة، ما يعكس هشاشة تغلغل الثقافة الديمقراطية، وضحالة الإدراك العام لأهميتها؛ ليس بوصفها فقط نظاماً سياسياً، بل فلسفة عميقة لحل الخلافات وتسوية النزاعات بأسلوب حضاري، بدون اللجوء إلى القوة أو السلاح والصراع الدامي!
المشهد يبدو أكثر وضوحاً وسفوراً عندما نتحدث عن الحركات السلفية والجهادية بصورة أخصّ، التي ركبت على موجة الربيع الديمقراطي العربي، ودخلت إلى قلب المشهد السياسي، وأفادت كثيراً من مناخات الحرية الجديدة. لكنّها، في الوقت نفسه، تعلن تحفّظها على النظام الديمقراطي، ورفضها الكامل له.
بعض شيوخ السلفية، حتى أولئك الذين يتبنون العمل السياسي والدخول في اللعبة، يتحدّثون في بدايات الربيع العربي عن القبول بالديمقراطية بوصفها نظاماً انتقالياً، أفضل من النظام الدكتاتوري، وصولاً إلى تحقيق الدولة الإسلامية (بالطبع هنالك اختلاف واسع في تعريف هذه الدولة، ما بين الإمام محمد عبده على سبيل المثال وأيمن الظواهري أو الشيخ ابن باز!).
حتى شيوخ التيار السلفي المصري، الذين تحوّل موقفهم من العمل السياسي بعد الثورة المصرية؛ فأسسوا حزب النور، ودخلوا الانتخابات التشريعية، وشاركوا في الاستفتاءات، وأصبحوا رقماً صعباً في المشهد السياسي المصري، يعلنون (مثل ياسر برهامي وعبدالمنعم الشحّات) بوضوح رفض مفهوم الدولة المدنية، ويؤكّدون أن قبولهم بالديمقراطية المقيّدة (بالشريعة الإسلامية)، كآليات (صندوق الاقتراع)، لا فلسفة (القيم الحاكمة لها).
يمكن سحب الأمثلة السابقة على السلفيين في تونس واليمن والمغرب والعراق، وبعض المناطق في سورية التي يسيطر عليها الثوّار. فسلوك هذه المجموعات والحركات يتنصل من أي التزام بالديمقراطية، لكنّها تتحوّل إلى حجّة وسلاح ضد خصومهم في حال كانت الديمقراطية في صفّهم!
الحال ليست أفضل حتى عند الأحزاب والقوى اليسارية والقومية والعلمانية، التي انقلبت على الديمقراطية وصندوق الاقتراع، وأصبحت تطالب بتدخل الجيش عندما أفضت خيارات الناس لوصول الإسلاميين إلى السلطة؛ إذ تحوّلت الهواجس من الأجندة الإسلامية إلى محاولة تعطيل المسار الديمقراطي بأسره، بعدما فشلت هذه الأحزاب في الحصول على ثقة الشارع!
في كتابه المتميّز الأخير "الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ"، يتساءل هاشم صالح (وهو من الباحثين العرب المدافعين دوماً عن أهمية التنوير الفكري والديني) عما إذا كانت الثورات العربية الأخيرة بمثابة زوبعة في فنجان، أم أنّها تؤسس لمرحلة جديدة في العالم العربي والإسلامي. ويصل في المحصلّة إلى أنّ ما حدث كان كبيراً على الصعيد الثقافي والفكري والسياسي، وأوجد متغيراً جديداً يتمثل في تكسير ثقافة الخوف.
ما حدث بعد الثورات، وفقاً لصالح، يعزّز القناعة بأنّ المعركة الثقافية لم تنته، وأنّه ما يزال أمامنا صراع طويل في "تصفية الحساب" مع الموروث الثقافي وأمراضه، لتكريس ثقافة جديدة تجعل من الديمقراطية نظاماً صلباً لا هشّاً يتضعضع مع أي هزّة عنيفة، أو يمثّل خياراً انتقائياً وانتقالياً لدى القوى السياسية العربية!
الغد