زرت القدس ثلاث مرات خلال حياتي، الأولى كنت فيها طفلا برفقة والدي و والدتي، ولم أكن قد أكملت السابعة، والثانية عام خمسة وتسعين، والثالثة عام تسعة وتسعين، ومنذ أربعة عشرعاماً لم أدخل المدينة، ولا مسجدها.
تطوف القدس في قلبي بطريقة غريبة هذه الأيام، شوقا و شغفا، وما فيها من حكايات الأجداد، وتتأمل صراع الفتاوى حول حرمة زيارتها تحت الاحتلال، وإذ تتفهم دوافع من ُيحرّم ذلك لأسباب دينية، إلا أنك تكتشف أن التحريم يؤدي إلى هجر المدينة وتركها وحيدة.
الذي يزورالمسجد الأقصى سريعاً، لا يسمع نبض قلب المسجد، ربما أنت بحاجة أن تمضي أياماً وساعات، حتى تسمع ما يقوله لك، وإذا أمضيت وقتاً كافياً، فإن حزنه يعلق بقلبك، حجارته وروحه وطلة وجهه، كلها تقول إن الحزن ُمتسيّد هناك، فتشربه روحك العطشى.
كانت جدتي تروي لي دائماً كيف كانت ومعها النسوة يذهبن إلى البلدة القديمة، سلالهن مليئة باللوز، وأحيانا العنب والتين، وفي حالات كن يحملن الحليب لبيعه في المدينة، كيلومترات قليلة، بين الأرض التي تنتج كل شيء، وقلب المدينة الذي يحظى بجدتي.
جدتي جميلة جداً. اسمها «مريم» وثوبها المقدسي، كانت ُتطرّزه بيديها، أجلس إلى جوارها ساعات، وهي ُتطرّز قطع الثوب بطريقة باهرة وجميلة، فيأخذ الثوب منها عمراً، ويزيدها جمالا فوق جمالها، وكأنها إحدى قطع فسيفساء القدس التي انتثرت ذات احتلال.
اسم «مريم» له وقع خاص لدى الناس، فهو اسم سيدة ليست عادية في حياتنا، إذ أنها المرأة التي ذكرها الله في القرآن ، وهي أيضا أم المسيح -عليه السلام-، وهي أيضا التي تفرّدت من بين نسوة البشر بولادة ابن في قصة تفوق المعجزة.
كلما تأملت صور جدتي في ذاكرتي واستذكرتها، تذكرت معها القدس، عيناها خضراون، ووجهها أخّاذ، روحي تقول لي إن أثر القدس كان عالقا بها، وقد نقلته لنا واحداً تلو الآخر، أدركنا ذلك أم لم ندركه.
صور القدس وحجارتها تذكرني بجدي أيضاً، الذي كان يدق الحجر بيمينه، تتأمل حجارة القدس وأنت تمر قربها. تكاد أن تسأل الحجارة الناطقة، من أبدعك وصاغك ياحجر، جدي أم غيره؟! كان هنا أيضاً، ولم يكن عابر سبيل، ولا ذكرى تنسى، وبقيت بصمات يده اسماً سرياً لبصمات روحه في المكان.
المشترك بينهما، أن كليهما كانا يبدعان فناً جمالياً. ما بين السيدة التي تبدع صناعة الثوب المقدسي الملون الجميل، وذاك الرجل الذي يبدع بإحياء الحجر وتجميله وصنعه وصياغته كما الذهب، و وضعه «ركناً يمانياً» في مدينة لا تريد أن تموت.
يمسني شغف هائل لزيارة القدس، وكما أنه لا تغيب «مريم» عن قلبي، لا تغيب القدس ايضاً، لأن الخط الواصل بينهما واحد، كلهن أمهات، والأم لا تغيب أبداً عن الحلم والواقع، والليل والنهار.
في «الإشراقة» ترى يوماً مقبلا، أرواح جميلة ُمطرّزة باللؤلؤ والياقوت والفيروز، ُتطرز معاً ميقاتاً قادماً بلا شك، يعود فيه كل الغائبين إلى مدينتهم وقراها، إلى مدينة ما زالت تنبض، ليل نهار، فإن تناساها البعض بقيت هي وفية لذكراهم.
ما من إنسان يستحق الحسد في هذه الحياة، إلا بائع الكعك عند باب العامود، فقد أولاه الله شرف جوار الأقصى.
maher@addustour.com.jo
الدستور