الجامعات التي أسست لتحمل صبغة محددة، كأن تكون تكنولوجية مثلاً والتزمت بذلك ولم تخرج عن نهجها نجحت نجاحاً باهراً، مثال ذلك جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، وما نسمع عنه من إكتشافات وإنجازات طبية وغيرها يؤكد ذلك.
أما الجامعات التي سعت وحاولت تغيير لونها من خلال الإنسلاخ عن هويتها وصبغتها التي اسِسَت من أجلها فقد تعثرت وهوت إلى حيث ما لا يحمد عقباه، سواء أكان ذلك من خلال عدم توفر أعضاء هيئة التدريس، أو من خلال عدم توفر البنية التحتية التي تناسب أحلامها الغير مدروسة لدرجة الإرتجالية، فتحولت إلى كوابيس وأفقدتها ألقها الذي امتلكته في عابر الأيام، أمثلة ذلك ايضاً الجامعات التي كانت صبغتها إنسانية دينية فسعت لأن تصبح علمية أو تقنية، أو تلك التي كانت تقنية علمية فتحولت في ظلمة ليل إلى متعددة التخصصات، معتقدة بأن ما أقدمت عليه هو إنجاز، إذ أن الذي ثبت على أرض الواقع ما كان ألا تسرع وتخبط، سببه ضعف التقدير وقلة التخطيط ومحاباة أدارات بعض الجامعات للمجتمعات المحلية التي تنظر إلى الأمر بأنه مكتسبات، ولم توضح لها ما كان يفترض بها فعله، بالشرح والتحليل خطورة ما هم بصدده وتعديد سلبياته لهم ولغيرهم، فجاءت قراراتها بالتحويل أو التحول كارثية، تراجعية، دفعت الجامعات ثمناً باهظاً جراء ذلك.
أود التوقف بعد هذه المقدمة لإقتراح ما يمكن أن نفعله لتصحيح الاخطاء، والعودة إلى الصراط القويم لإستعادة هيبة الجامعات والتعليم، بأقل الخسائر ما أمكن، وفي الوقت ذاته التخفيف من حالة العنف التي استعصت على إدارات بعض الجامعات الحالية والتي أرى أن أحد أسبابها هو تغيير رسالات ورؤى الجامعات.
لو بدأنا من جديد بإعادة تترتيب صفوف التعليم العالي وأقصد هنا الجامعات الرسمية بشكل جذري شامل، وهذا يتطلب خطوات جريئة حازمة، من خلال إعتماد مبدء تخصص الجامعات، فمثلاً تختص جامعة مؤتة بالهندسة على كافة تفرعاتها، والجامعة الأردنية بالطب وعلومه وجامعة اليرموك بالأداب وجامعة العلوم والتكنولوجيا بالطاقة النووية والمتجددة، وال البيت بعلوم الدين والفقه والوعظ والإرشاد، وغيرها بالزراعة وأخرى بالإدارة والإقتصاد وهكذا مثلاً، فسيتجمع في كل منها المختصين في حقل معين بدل من تفرقهم عبر الوطن، والذي سيجعل كل منها قبلة في تخصصها، بدل من ضعف بعضها الناتج عن قلة المختصين بها والكل يعلم تبعات ذلك واضطرار الجامعات قاطبة إلى الإبتعاث المستمر لسد النقص الدائم في أعداد أعضاء الهيئات التدريسية فيها، بالمقابل فإن التحسن الذي سيطرء في مجال البحث العلمي المشترك الناتج عن تواجد الباحثين في نفس التخصص معاً وفي نفس الجامعة من شأنه التأثير الإيجابي على الصناعة وغيرها من المؤسسات التي تعتمد البحث العلمي كأساس لنموها وإزدهارها.
الأهم من ذلك كله هو أننا بهذه الطريقة سوف ندفع بأبنائنا الطلبة من كافة أنحاء الوطن الحبيب، إلى شد الرحال طلباً للعلم في تلك البقاع الجديدة ذات التخصص، ولن تكون هنالك تكتلات للطلبة أساسها مناطقهم، بل سيكون جامعهم هو علمهم وتخصصهم، فبُعد الشخص عن منطقته سيبعده شيئا فشيئا عن التفكير بالطريقة التي جُبِل عليها، وهذ ما يطلق عليه مجازاً "تلاقح الأفكار أو الحضارات" والذي سيفضي طبعاً إلى تغيير السيء من العادات، مع تشرفنا بإنتمائنا لحضارتنا المجيدة السامية.
إجراء كهذا فيه صعوبة وكلفة مالية وعناء، ونقل أساتذة وأقسام من مكان لأخر وبالتالي تكلفة عالية أيضاً على الطلبة وذويهم، ولكنني أقول مهما أرتفعت التكلفة لن تكون أثقل علينا من أن تقفل بعض الجامعات إلى الأبد، أو نفقد حياة إنسان خاصة إذا كان طالب علم، من ناحية أخرى لا أجد بأن الفئة القليلة أعطت الفئة الكثيرة مزيدا من الخيارات، ولنَقُل إذا ظهر للعيان فشل التجربة الحالية فعلينا أن نذعن لخيارات التغيير، خاصة إذا ما كان النفع المتوقع فيما يُطرح أكبر من الضرر الحاصل أصلاً.
muheilan@hotmail.com