نتحدث عن الإصلاح، ونفعل ما يعيق تقدمه؛ نتحدث عن الواسطة والمحسوبية، ونمارسهما جهارا نهارا؛ نتحدث عن محاربة الفساد، وعند القبض على فاسد تهب جماعته للاعتصام رفضا للتوقيف؛ نتحدث عن نبذ العنف الجامعي والمجتمعي، وعند أول حدث يذهب كلٌ إلى حيه متوشحا برداء الثأر والحمية!
نتحدث عن الدولة المدنية، ولكنّ ممارساتنا تعود بنا إلى عصور طواها الزمن والتاريخ. ونتحدث عن نبذ الجهوية والطائفية والإقليمية، وعن المساواة، ونمارس خلاف ذلك في حياتنا اليومية.
الأنكى أن بعضنا، يقف مستغربا شاخصا فاتحا فاه مما وصلت إليه الأمور في جامعاتنا ومؤسساتنا الدستورية، وفي الدولة بشكل عام. ويفاجئك بالقول إن الزمان تغير، والأمور تبدلت، وإننا عدنا إلى الوراء، بدون أن ينظر إلى نفسه ماذا يفعل، ولحياته كيف يقوم بتسييرها.
في الندوات، يتحدث محاضرون ومتدخلون عن الإصلاح، والحقوق والواجبات، والدولة المدنية العصرية القائمة على المؤسسات والقانون ومساواة المرأة بالرجل، بكلام منمق جميل، ينقلونك عبره إلى عوالم أخرى، ويشعرونك من روعة الكلام وعذوبة المنطق بأننا بالفعل ولجنا الدولة الحديثة المبنية على حرية الفرد والجماعة والفكر والرأي والمعتقد والإعلام، وأننا منحنا المرأة كل حقوقها بالمساواة، وأرسينا نظما انتخابية لا تشوبها شائبة، وأقمنا دولتنا الديمقراطية، ومنحنا المواطن حقه الكامل في التمتع بمواطنته، وأرسينا عدالة اجتماعية ساوينا فيها بين الغني والفقير، وبين العامل والوزير، ووزعنا عوائد التنمية بعدالة، وأقمنا صروحا اقتصادية في كل المحافظات تحول دون تدفق الهجرة إلى العاصمة، وترسي حواضن مدن حقيقية لا تنقصها خدمات، وتفي بكل متطلبات أبناء المحافظة وقراها بدون الحاجة إلى الانتقال لعمان.
نعم، ففي المحاضرات والمناظرات المتلفزة، والمقابلات الصحفية والإعلامية، يتحدث البعض عن كل ذاك، فيتوسع أفق الشعور بحقيقة الانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة أساسها ما يقال في تلك المحاضرات، وما تزخر به بواطن الكتب.
لكن الأنكى أن متحدثين (وهم كُثر) ينقلبون على أنفسهم عند أول مفترق طريق، أو احتكاك مباشر مع مفرزات الدولة المدنية، فيلجأون إلى الواسطة والمحسوبية لتمرير موضوع يخصهم، ويرفضون مخرجات أي قانون انتخاب ديمقراطي مقترح، باعتبار أن القوانين الانتخابية التي سبق لهم أن أشبعوها نقدا، أوجدت حقوقا مكتسبة للبعض لا يجوز التراجع عنها. وهم أنفسهم يعلون الصوت نقدا للحكومة (أي حكومة)، إن أغفل رئيسها محافظاتهم من حصتها في التوزير، ويرفضون مساواة المرأة بالرجل إن تعلق الموضوع بحسابات ضيقة لديهم.
هؤلاء (وهم كثر) يتحدثون بخلاف ما يفعلون، ويمارسون عكس ما يقولون. وبهذا تتوسع رقعة الإرباك لدينا، وتتمدد قاعدة التردد في الانطلاق نحو الإصلاح الحقيقي المفضي في نهايته إلى أردن ديمقراطي؛ أردن يتسع للجميع.
مثل هؤلاء، للأسف، لهم حضور في مجالسنا النيابية، وفي مجلس أعياننا، وفي حكوماتنا، وفي كل زاوية صنع قرار في هذا الوطن. وفكرهم (للأسف) في خلفيات التفكير اليومي الذي نبدأ به نهارنا، وننهي به ليلنا.
بناء الدولة المدنية الحديثة يتطلب رجال دولة ورأيا عاما ومشرعين وكتّابا وصحفيين مبدعين متصالحين مع أنفسهم، مع ذواتهم، مع أقوالهم، مع أجيالنا المقبلة.
دعونا نقف لنفكر في مستقبل وطننا، ونفكر كيف ننتقل به من مطرح لآخر، بدون النظر إلى مكاسب ضيقة، وأفكار عفا عليها الزمن. فالوطن لا يمكن أن ينتقل من مكان لآخر أكثر رحابة وسعة، بدون أن تتجسد إرادة الجميع لتحقيق ذلك، وبدون أن نشكل حالة تصالح مع الذات بعيدا عن حالات انفصام الشخصية التي يعيشها البعض.
أخيرا، رحم الله الإمام الشافعي الذي قال:
نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا..
وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا
وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ..
وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا
وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ..
وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا
jihad.mansi@alghad.jo
الغد