حيدر محمود عن "أنا .. ولكن " لباسم سكجها
03-04-2013 03:01 PM
حيدر محمود عن "أنا.. ولكن " لباسم سكجها ...
كتاب يُمثّلني، وهو قصيدة شعر تُذكّرني بمحي الدين بن عربي وجدّنا المتنبّي ..
إرتجل شيخ الشعراء العرب حيدر محمود كلمة في حفل توقيع كتاب :"أنا.. ولكن" للكاتب باسم سكجها، قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
وأسعد الله مساءكم جميعاً، في هذا المساء الثقافي المتميّز، الذي غاب عنّا طويلاً، أو فلأقل إنّه غاب عنّي شخصياً طويلاً، لأنّني منذ مدة بعيدة لم أجد نفسي في كتاب، بقدر ما وجدت نفسي في هذا الكتاب تحديداً: أنا..ولكن". خُيّل إليّ، وأنا أقرأه مرّتين، عامداً متعمّداً، لأنّني في عمري لم أقرأ كتاباً مرّتين، خُيّل إليّ أنّني أقرأ نفسي.
قرأته، أوّلاً بشكل محايد، ثمّ بدأت أنحاز، لأنّني أخذت أكتشف ذاتي في هذا الكتاب، من حيث: الحريّة التي تُشبه النسيم، ومارسها باسم سكجها مع ذاته، ومن الناحية االأخرى، المهمّة جداً، هذا السفر المُتعِب والمُريح في آن معاً، الذي سافره من حيث المكان، ومن حيث الزمان، وثالثاً: من حيث الثارات المتراكمة لباسم سكجها على الكثير من الأشياء، من نابليون، إلى إسرائيل، إلى وإلى وإلى، وربّما إليّ أنا أيضاً، لا أدري..
لكنّ المحطة الرئيسية، في هذا الكتاب، العجيب الذي يُشبه ديوان شعر في منتهى الجَمال، أنّه لم يكن يُحبّ الإطالة في أيّ مقطع من مقاطعه. ذلك هو ما يُفكّر فيه الشاعر، أكثر ما يُفكّر فيه السياسي أو الكاتب أو حتى الصحافيّ. هناك إختصار شديد، وتكثيف لكلّ ما أراد أن يقوله، بشكل لا يملّ معه القارئ. لا يمكن لقارئ أن يملّ مع هذا الأسلوب الجميل. هو أسلوبه أيضاً ككاتب في عموده اليومي، فقد كان دائماً مُقتضباً، ومُكثّفاً، ومُقطّراً، حتى أنّه يكتب الشعر، أو تكاد أن تلمس أنّه يكتب شعراً أو قصيدة.
هذا الكتاب، ديوان شعر، أو قصيدة، لكنّني قبل أن أتحدّث عن الكتاب، سأتحدث عن باسم إبراهيم سكجها قليلاً. قبل العام 1967 أتيحت لي فرصة أن أعمل سكرتيراً لتحرير صحيفة "الجهاد"، والذي رشّحني لذلك الموقع إبراهيم سكجها، الذي كان سكرتير تحرير جريدة منافسة هي "فلسطين"، وكُنتُ فتى في الرابعة والعشرين، وأقول ذلك حتى لا تظنّوا أنّ عُمري مئة سنة. أيّامها كانت الصحيفة عبارة عن أربع صفحات، لكنّ إنتاجها كان مضنياً، وصعباً، حيث صفّ الحروف واحداً واحداً، ويستغرق الليلة كلّها.
كُنتُ أنهي عملي في "الجهاد"، وأذهب لأكمل السهرة مع إبراهيم فنفتح ديوانية. ومع أنّ الصراع بين الصحف كان كبيراً، وعجيباً جداً، كُنتُ أنشر قصائدي في صحيفة "فلسطين" المنافسة لصحيفتي، بالاضافة إليها، وحين كان أصحابها يغتاظون، فيعاتبونني، كنتُ أقول لهم: "فلسطين" أكثر إنتشاراً من "الجهاد"، وعلى أية حال فقد تركتُ "الجهاد" للعمل مذيعاً في الإذاعة الأردنية بعد أن إكتشفوا أنّ صوتي مناسب للإذاعة. إبراهيم سكجها كان صديقي، وأستاذي، وأستاذ كلّ الصحافيين في تلك المرحلة، وما بعدها من مراحل، وهذه العلاقة فتحت علاقة أخرى بفتى كان يتشكّل في ذلك الزمان، وكان عمره على ما أذكر أقلّ من الخامسة عشرة، الذي إسمه باسم إبراهيم سكجها.
كان يمرّ كطيف نسيم، مثقّفاً، عقله أكبر من سنّه بكثير، يقرأ بإستمرار، ويتابع كلّ صغيرة وكبيرة، ويكتب، وكنّا نُبدي إعجابنا، جميعاً، بما كان يكتب، ونتنبّأ، منذ ذلك الوقت، بأنّه سيكون كاتباً مُهمّاً، أو شاعراً كبيراً، لأنّ أسلوبه كأسلوب الشاعر، يبدأ بالقَرمزة، وهي نوع من التغريدة الخاصة، ثُمّ ينطلق، وهكذا كان يشي بأنّه سيكون شاعراً بالدرجة الأولى. مِن بَعد، إكتشفتُ أنّه يميل إلى أن يكون كاتب رواية، ثمّ أخذته الصحافة من الأدب إلى السياسة، وإلى معالجة قضايا الناس، لكنّه ظلّ يُحافظ على الجملة القصيرة، ويطغى عليه الأسلوب الشفاف، وأنا مُعجب، أصلاً، بالجملة القصيرة، فقد عملت مذيعاً، والمذيع يُفضّل هذه الجملة حتّى يتنفّس. أنا ضدّ الجملة الطويلة، التي تبدأ من أوّل الصفحة وتنتهي في آخرها، وهذه ليست جملة أصلاً.
هذا من جانب الكاتب، أمّا من جانب الكتاب، فقد قُلت إنّه يُمثّلني، ونادراً ما يقول قارئ عن كاتب إنّه يمثّلني، نادراً جداً، لكنّه في رحلاته المتميّزة، ذكّرني بأسلوب شيخ الصوفيين محيي الدين بن عربي، وأرجو أن يكون الحضور، أو بعضهم على الأقل، قرأوا فتوحاته المكيّة. كان مُقطّراً تقطيراً عجيباً، فالموضوع، كلّه، عنده، لا يستغرق أحياناً أكثر من جملة. هذا الكلام وارد، في هذا الكتاب: أنا..ولكن، هو مُقطّر تقطيراً عجيباً. أنا لا أعرف إذا كانت هناك عملية مونتاج عند باسم سكجها، وأشكّ في ذلك، لأنّه لا لديه وقت للمونتاج أصلاً. هو يُفكّر بسرعة، ويتصرّف بسرعة، وإلاّ لما كان طاف الكون كلّه تقريباً، وعاش في كثير من المدن، التي يستعرضها في الكتاب.
أستنتج، من ذلك، أنّه "على قلق كأنّ الريح تحته يحرّكها جَنوباً أو شَمالاً"، هو، تماماً، مَن عَناه جدّنا الكبير أبي الطيب في هذا البيت. أبو الطيب المتنبي لَم يَقصد نفسه في هذا البيت، بل قصد باسم سكجها، وأمثاله، من الذين يسافرون ويذهبون بعيداً، ولكن في المكان نفسه. باسم سكجها يسافر في نفس المكان، يُغادر، ويعود من جديد، على ظَهر جملة، أو كلمة، أو حتّى حَرف. أكاد أجزم أنّ هذه الكتابة هي التي سيكون لها المستقبل القريب، وليست الكتابة الطويلة المملة. هذه السرعة، وهذا التقطير، والتكثيف، يَشي بمستقبل الكتابة، حتى في عالم الرواية. أنا ضدّ الروايات الطويلة، التي تستغرق خمسمائة، وحتى ألف صفحة، وكلّها، للأسف، أخطاء لُغوية، حتى عند كبار الروائيين نرى ذلك، بحيث أنّك تملّ وأنت تقرأ. تبدأ بالجملة الطويلة، التي قد تستغرق صفحة كاملة، ولا تعرف مع نهايتها ماذا يريد الكاتب؟
عند باسم سكجها، الأمر مختلف، فأنت لا تستطيع ترك الكتاب من يدك دون أن تنهي قراءته كاملاً. هذا ما حصل معي، فعلاً. قرأته مرتين، دون أن أجرؤ على ترك الكتاب، وكُنت أحسب أنّ باسم سكجها مَعي وأنا أقرأ، وهو يقول لي: أسمعني ما تقول. في النهاية أقول، لباسم، ولأبيه إبراهيم، وإبنه إبراهيم، بعض أبيات من الشعر، لها علاقة بالكتاب:
في الأرض متّسعٌ
وهذا الجرح يَحملني
إلى دفء الحقيقة
ويعيد تكويني على مَهل
يَردّ إلي لون النار
واللغة العتيقة
وأكون خارطتي..
مِنَ العينين
يبدأ حُزني الشَرقيّ
عَبر دمي
يمر النهر دُورياً
تمرّ الريحُ أغنيةً طليقة
وَعَلى فَمي
تَضع الحروفَ صغارُها
...وَتغيب
عِند مصبّ هذا الجرح
يبدأ حزني الغربي...
هذا الجرح
يحملني إلى رئتي
التي سَدّت نوافذها خيوطُ اللون
فاختلطت بريشتها الرشيقة
والأرض سيّدة الجهات
الأرض سيّدة الجهات
وأنتَ سيّدها
فطوّق خصرها بيدك
وبالأخرى إنتشر رجلاً
على كل التفاصيل الدقيقة.