خلاصة القول أن مشاعر الحسرة والخيبة تتولد عند الفرد المسلم كلما عاين وجه الحضارة وتلمس الفرق بين زيف الاستهلاك الذي يحياه هنا ، والانجاز الحقيقي والتقدم المادي هناك .
وأخص الفرد المسلم بكلامي لأنه يعيش دائما بين واقع رديء وحلم جميل .أما الواقع الرديء فهو احتلال البلاد وانتهاك أعراض العباد و ظلم ذوي القربى وانعدام قيمة الإنسان والفشل الذريع على كافة الصعد العلمية والصناعية والإنتاجية .
بينما الحلم الجميل هو ما يبثه في نفسه إيمانُه الراسخ بأنه حامل الرسالة الخالدة التي هي مفتاح فهم الإنسان للكون من حوله ، والمحركُ الأعظم من أجل العمل والبناء .
عوامل متضادة متنافرة تدور في دماغه بين روحانيات جميلة وواقع مؤسف .
أما السياسة والدين فهما حاضران بقوة يرسمان كل معالم الصورة ويدخلان في أدق تفاصيلها .
ولنقل شيئا عن هذين العاملين :
نحن برغم جميع بلاوينا ما نزال بخير من الناحية الدينية على المستوى الشخصي ، وهناك إيمان راسخ بأن لدينا من المقومات ما يؤهلنا لأن نعود فنتبوأ مركز الصدارة في العالم من جديد .
لكن حتى في تديننا هناك بعض المشاكل :
- هناك جهل بالنظرة الكونية للإسلام التي تجعل من كل إنسان مهما اختلف عرقه أو زمانه مسلما محتملا ، بمعنى أن الآخر محكوم عليه بالشر الأبدي والعداوة الحتمية ، وإنما سبَّبَ هذه النظرة انغلاقنا وخوفنا والظلم الذي مورس علينا من قبل المستعمر والمحتل . لقد أوقعتنا ظروفنا السيئة وتحول الدين من روح إلى شعائر ، أوقعتنا هذه العوامل في نظرة عنصرية تختصر الدين في مجموعة من الناس بدلا من أن تسعى إلى نشره والولوج به إلى أصقاع العالم المختلفة .
وعليه فقد باتت التجربة الحضارية الغربية في نظرنا تجربة عرقية تمثل أناسا آخرين ، نخشاها كما نخشاهم ، وتخلو في نظرنا من قيمتها الإنسانية التي تجعل لنا نصيبا منها كوننا بشرا أولا وأخيرا .
- الإغراق والمبالغة في الربط بين النجاح على الصعيد الروحاني والنجاح على الصعيد المادي ، فنحن متصوفون إلى أقصى الحدود في تديننا ونظن أن السماء قد تمطر علينا ذهبا وفضة فيما لو كنا أشخاصا طيبين نؤدي فروضنا الدينية ونطبق كل ما أمرنا به وننتهي عن كل ما نهينا عنه .
وبرغم أهمية العبادة والالتزام بالتدين قلبا وقالبا وهذه غاية كبرى من غايات الإنسان في الوجود ، إلا أن تجارب الدهر أثبتت لنا أنْ لا تلازم بين الجانبين ، فنحن قد نكون في أسمى حالاتنا الروحانية لكننا في المقابل لن نظفر من القوة العسكرية والاقتصادية ومقومات الحضارة بنصيب . علينا أن نحسن استغلال الأسباب ونتمرغ بتراب هذه الأرض التي منها وجدنا واليها معادنا كي نكون أحرارا راضين عن أنفسنا .
وأنقل هنا فهم مالك بن نبي للآية الكريمة " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " بأن المقصود بالصالحين في هذه الآية هم الأكفاء الذين يحسنون اتخاذ الأسباب والقادرون على صنع الحضارة وخدمة الإنسان بغض النظر عن تقواهم أو الدين الذي ينتسبون إليه .
والقرآن بمجمله لا يغفل جانبا على حساب الجانب الآخر ، فهو حين يأمرنا بالاعتصام بحبل الله فانه يطلب منا إعداد ما نستطيعه من أسباب القوة والظفر . أما الركون إلى حالة التصوف هذه فمرفوض جملة وتفصيلا .
ونتيجة النجاح على صعيد والفشل على الصعيد الآخر هي حالة من الفصام الواضح أمام أي حضارة أخرى , سبب الفصام أن المسلم يستشعر جانبي واجبه الديني فيحس بالتناقض عند نجاحه في جانب وفشله في الجانب الآخر ، فيلقي باللوم على المجهول ويظن أن نجاحه في مسألة العبادة كفيل بنجاحه في معركة الحضارة لولا ما يحاك حوله من مؤامرات وفتن .
لكن الحقيقة غير ذلك فالأسباب التي تخلى عنها هو وأحسن استغلالها الآخرون جعلتهم يتقدمون عليه ويصنعون الانجاز والرقي ويسعون نحو السيطرة عليه وعلى غيره كمظهر مهم من مظاهر القوة ، هذه الأسباب والانجاز من بعدها عوامل مادية بحتة تؤدي إلى طريق واحد هو الحضارة المادية والعمران ، سواء كان الباني مسلما أو غير ذلك .
ثمة أمر أخير مؤثر في قيمة الفرد عندنا وجاعل من طريقة تفكيره طريقة غير واثقة ومرتبطة دائما بالسياسة وشكل الدولة دون مراعاة للفردية والشخصية الذاتية . أنها ألف وثلاثمائة عام من التردي السياسي عاشها الفرد المسلم متحملا كل أشكال الكبت والضغط على أعصابه وإنسانيته ، هذا التردي السياسي ارتبط بشكل الدولة والحكم واستَغَلَ الدين أبشع استغلال في خدمة أنظمة الحكم ومصالحها ، لقد عشنا دهرا طويلا خاضعين لما يمكن أن نسميه " العلمانية المستترة " أي تهميش دور الدين الحقيقي في خدمة الدولة والمجتمع والاهتمام فقط بجوانبه الفردية ، أو – وهو الأخطر – تطويع نصوصه وثوابته في خدمة رجال الحكم والسياسة .
دائما كانت قيمة الفرد في الحضيض وأقصى ما يمكن أن يتخذه من إجراء هو أداء بيعة يقبل خلالها يد الحاكم المنتظر طواعية أو منقادا إليها بحد السيف . لقد استغل مفهوم الخلافة أبشع استغلال ومورس عن طريقه أشكال فظيعة من الاضطهاد وباسم الدين وهو من ذلك براء .
فالدين الذي جاء كي يعلي من شأن الفرد من حيث هو إنسان وقيمة مطلقة ، ضغط على الإنسان واستغل في خدمة هذه الدولة أو تلك ، لقد عشنا عصرا من التقدم العلمي والنهضة ، لكنني لا اعرف في تاريخنا عصرا كانت قيمة الإنسان فيه محترمة وعالية إلا عصر النبوة و الخلافة الراشدة وهو عصر قصير قصير .
هذا غيض من فيض الحشرجات التي في الصدور ، وهي أفكار غير مرتبة تتلى بصوت عال لعل النقاش يثريها ويساهم في صياغتها بأسلوب أكثر جمالا وترابطا . آملا أن لا نكون قد خرجنا كثيرا عن الموضوع في جزئه الثاني ، فالجانب الوصفي ليس هو المقصود لأن معظم الذين سيقرأون هذا المقال على اطلاع أعمق من اطلاعي بتفاصيل الحياة الغربية وثقافتها ونهضتها ، وإنما هي آفاق يفتحها الحديث عن الآخرين بما يذكرنا بأنفسنا وتقصيرها .
samhm111@hotmail.com