انا، والكثيرون، لا ندري فعلاً كيف يتم اختيار من يديرون الحوار، سواء في المنتديات العامّة، أم على الهواء الإعلامي، أم حتى في اللقاءات الثنائية. ولقد عجزنا عن رصد المعايير التي يتم بموجبها إسناد الأمر إلى هذا الشخص أو ذاك. إذ أن عملية قيادة التحاور وإدارة تبادل وجهات النظر، من الأمور الصعبة والدقيقة التي يتأنّى المسؤولون، في العوالم المتحضرة، كثيراً قبل أن يقع اختيارهم على الأفراد الذين سيشغلون هذه المهمة.
وإذا ما وقع الاختيار على أحدهم فإنه يخضع لسلسلة طويلة من الدراسات ومراحل عديدة من التثقيف العام، قبل أن يدخل في سياقات طويلة من التدريب، ليس فقط من حيث سلامة اللغة، ولكن حتى من حيث إتقان الحوار، والالمام بالكم الكبير من المعلومات، إلى جانب أسس التعامل والاتكيت، ناهيك عن إطلاعه، بشكل واسع، على ما يعرف بلغة الجسد، وطريقة الإلقاء، وفهم الآخرين وتقدير مستوياتهم واحترام ذواتهم. فليس معنى أن تمسك بمقاليد الميكروفون، أنك غدوت صاحب الشأن الأوّل، فتمرر ما تشاء وتحجب ما تشاء.
الناس لهم رؤى هي, بالضرورة، مختلفة، فكل منهم يحيط بالأمور على قياسات فهمه وتقديره وثقافته ومستوى إدراكه. لذلك فليس من المقبول أن نتعاطى مع الرأي الآخر وكأننا نحن وحدنا الذين نملك الحقيقة. هذا في حالة أن نكون طرفاً في الحوار، وتغدو الأمور أصعب إن تغيّر الأمر فأصبح أحدنا مديراً للحوار، وهنا تكمن المشكلة, إذ أن العديد ممن يديرون ما يعرف ببرامج Talk عندنا يذهبون بعيداً عن «المطرح» الذي يجب أن يكونوا فيه، فتراهم تارةً يشّرقون وتارة يغرّبون على هواهم. وتراهم أحياناً أخرى يصادرون رأي الآخرين ويبدأون بمهاجمتهم وكأنهم هم طرف الحوار لا المُحاوِرون.
ومن الملاحظ أن المذيع «العربي» لا يدري حدوده ولا حدود مسؤوليته، ولا يدري، في أغلب الأحيان، موقع المقعد الذي يشغله أمام الشاشة أو أمام الميكروفون، ولذلك تجده «يقمع» هذا و»يسيء» إلى ذاك اعتماداً على أنه صاحب الولاية العامّة.
إن التطاول على الآخرين غير محمود بالمطلق، والتعدي على «أدمغة» الآخرين مرفوض على كل القياسات، وهناك أدب في علم الحواريّات وفي علوم فن البرتوكول اسمه أدب الحوار. وهناك أدب التخاطب مع المسؤولين، وهناك أدب الحديث مع الشخصيات العامّة، إذ أن المناكفة لا تكون، قطعاً، على الهواء المحتكر، محمودة أو مجدية.
كثير منا يتابع برامج مشابهة على قنوات عالمية، وكثير منا يعجب بأسلوب مديري الحوار وطريقة تعاطيهم مع الضيوف، من أمثال جون استيوارت وأوبرا وينفري ولاري كينغ وباربرا وولترز وغيرهم كثير. فكل هؤلاء وآخرون تراهم يلقون بالأسئلة أو يوجهون التعليق بطريقة مثقفة وواعية ومملوءة باحترام من يجلس أمامهم، يأخذون منهم ويضيفون إلى مخزون الفهم العام للقضية التي يناقشونها.
لابد لنا من أن نحسن اختيار من نوكل إليهم مهمة إدارة الحوارات، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأسلوب والمنهج والفهم والإدراك. ولا بد من إخضاع كل من نختار إلى دورات مكثفة طويلة وصعبة ودقيقة قبل أن نرسل بهم إلى الاستديو، إذ أن وصولهم إلى هناك يعني أن الأمر قد أصبح مطلق العقال، ولا قدرة على الضبط طالما أن المقولة قد بثت على الهواء، إذ تغدو الكلمة سهما،ً إن صدر عن قوسه فلا مرد له. وأهم من ذلك أن نكبح جماح مديري الحوارات حتى لا يذهبوا في غي مخاطبة العواطف واللعب على حبالها دغدغتها، إذ أن هذا يُسقط جميع الأطراف في مزالق التجديف والتخريف والعبثية.
الرأي