عندما تذهب في أفكارك إلى أماكن ومطارح، وهي، في الأصل، مكوّنات التحوّل الديمقراطي في الأردن، وعندما تحاول أن تتبصر في مرتكزات هذا التحوّل واللاعبين الأساسيين في صياغته، وعندما تريد أن تتدبر الأمور على وجوهها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والفكرية والثقافيّة، عند هذا كله يستوقفك أمر يتكرر في كل مناسبة، وفي كل نقلة، متمثل في ذلك التفسير الدقيق والمرهون إلى الوجدان، لجوهر العلاقة القائمة بين أطراف الدولة الأردنية. هذه العلاقة التي رُسمت في أساسها على مقاسات الولاء المتبادل بين رئيس الدولة وبين الناس.
ولّدت هذه الحقيقة حجماً كبيراً من الثقة، فالمواطنون بيّنوا لمؤسسة العرش أنهم راضون وقانعون بها ومقتنعون بحسن إدارتها. وأن الفلسفة التي تولى الهاشميون بموجبها الحكم، إنما تقوم على مدى الانتماء المتماثل من قبل جميع الأطراف. وعلى هذا الأساس قرأنا فكر السلطة الهاشمية الحاكمة، ودخلنا إلى مسافات بعيدة في فهمها وفي تكوينها. وهي من جهتها أدركت، بكل وعي، أن هذا التميّز الذي منحها إيّاه الناس قد حمّلها أعباء ضخمة من المسؤوليات التي تفرض عليها العمل بكل أخلاص وتفان واجتهاد، الأمر الذي انعكس على شكل تحقق مصالح المواطنين، تطاولت أو تعددت.
ومن المعطيات والحقائق التي تريح الدولة الأردنية، هي تلك الأفكار التي تتقاطر ضمن مقاربات سياسية كثيرة وكبيرة يقوم بها جلالة الملك، سواء في المحافل الدولية، أم في اللقاءات الإقليمية والعربية منها بالذات، أم في التصريحات الصحفية التي تجريها وسائل الإعلام العالمية، والتي تجد في مقابلات جلالة الملك كمّاً كبيرأً من الدقة والمباشرة في التناول، وذلك القدر الكبير من الوعي والاحترام الذي يبديه جلالته، سواء للصحفيين، أم للمستهدفين من الخطاب أو الطرح.
وهنا لن نقف طويلاً عند منحنيات التفسير والفهم الوعر أحياناً، ونقول حتى أن أبا تمام لما سألوه، لماذا لا تقول ما يُفهم؟ قال ولماذا لا تفهموا ما أقول! ولذلك فإن جلالة الملك ليس مضطراً أن يلقي دروساً في المصطلحات، أو أن يذهب إلى زوايا عدم القدرة على الإدراك، هذا بالرغم من أنه واضح جداً، ومباشر جداً في أقواله.
ففي مقابلة مع وكالة الأنباء الأمريكية (اسوشيتد برس) بثت يوم (20/ 3/ 2013) تحدث جلالته عن مفاصل هامة في الرؤية الحديثة للدولة الأردنية.
وقطعاً للتفسيرات، غير البريئة أحياناً، فإن جلالته، كعادته، قد وضع الأشياء في أُطرها المُحَدِّدَة لمعانيها، وجاء ذلك مباشراً ووثيقاً، سواء إن كان الأمر متعلقاً بزيارة أوباما، أم بعملية السلام ودور الأردن فيها، أم ما تعلّق بأزمات المنطقة.
ثم عرّج جلالته على الحديث عن الرؤية الاستشرافية التي يراها لمعنى «الملكية»، ليس في الأردن وحسب، ولكن في جُلّ الدول طارحاً فهماً دقيقاً لهذا المصطلح، مبيّناً أن ذلك كله منضو تحت الدور الذي يضمن سلامة الدستور، والذي يلعبه جلالته بكل أمانة واقتدار، مصححاً كثيراً من المفاهيم التي حشرت نفسها في دهاليز فقدان التوازن.
وتشعب الحوار ليصل إلى الانتخابات والأحزاب والحكومات البرلمانية. وللحقيقة التي تسوق نفسها، فإن كل هذه الدعوات إلى التحوّل الديمقراطي، هي في الأصل صناعة ملكية، ينسبها جلالته بكل تواضع إلى الآخرين أيضاً.
حديث الملك الأخير هام ويجب قراءته في السياق العام للتفاهمات الفكرية الشاملة التي بدأها جلالته مع الوطن منذ زمن طويل؛ وحتى تُفهم الطروحات ضمن حجومها ومعانيها فقد تعمّد الملك أن يستخدم «اللفظة» المباشرة والواضحة التي يجب أن لا تحتمل التأويلات ذات الأجندات المسبقة الصنع، والهادفة نحو تحريف المقصد وتشويه الرؤية.
الرأي