شدني كثيرا إلى رواية أمين معلوف "التائهون"، أنها روايتي شخصيا، وربما تكون رواية جميع/ معظم أفراد جيلنا؛ الشباب الذين تشكل وعيهم في منتصف السبعينيات، ثم تاهوا في الأرض، وتاه العالم كله أيضا.
لقد شهد هذا الجيل من الخيبات والأحداث والتحولات الكبرى ما يفوق ما شهدته البشرية في آلاف السنين. ولنتذكر، على سبيل المثال لا الحصر، الثورة الإيرانية، والمد الإسلامي، والانحسار القومي واليساري، والثورة الإسلامية في أفغانستان وفي سورية، واغتيال السادات، وصعود الإسلاميين إلى واجهة التأثير السياسي، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية، والغزو العراقي للكويت، ثم الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، وأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وصعود "القاعدة" والعنف "الإسلامي" ومكافحة الإرهاب.. وربما أهم من ذلك الثورة المعلوماتية والمعرفية، الممثلة في الحاسوب والإنترنت والاتصالات، والتصغير والتشبيك، وأنسنة التقنية، والهندسة الجينية، والعولمة ، وانتخاب أوباما رئيسا للولايات المتحدة.. وأخيرا الربيع العربي!
تدور الرواية حول مجموعة من الأصدقاء في بيروت، كانوا طلبة في الجامعة في منتصف السبعينيات عشية الحرب الأهلية اللبنانية، وجعلهم معلوف من كل الطوائف والاتجاهات والأفكار والطبقات. ثم عصفت بهم الأحداث. وتالياً يحاول أن يبحث عنهم ويستعيدهم بعد ثلاثين عاما.
آدم؛ الراوي، شاب مسيحي هاجر إلى فرنسا وأكمل دراسته، وصار مؤرخا وأستاذا في جامعة فرنسية، وتزوج من صحفية من أصل أرجنتيني. وألبير، الذي قتل والده في أفريقيا، وتزوجت أمه بعد ذلك وتخلت عن ابنها لتضعه في عهدة مدرسة يسوعية داخلية، يظل وحيدا غامضا. وفي الليلة التي يقرر فيها الانتحار، يختطفه شخص ردا على اختطاف ابنته. ولكنه اختطاف يتحول إلى صداقة متينة أبدية، ويصير بمثابة ابن للرجل وامرأته اللذين فقدا ابنهما. ويهاجر "ألبير" إلى الولايات المتحدة ويكمل دراسته ويعمل باحثا مرموقا في مؤسسة حكومية أميركية مهمة وحساسة.
ونعيم (يهودي) هاجر إلى البرازيل مع والديه، ودرس الإعلام واشتغل في الصحافة، وتزوج من كاثوليكية برازيلية. ومراد تزوج من "تانيا"، وكلاهما جزء من المجموعة، وظل في لبنان، وتعاون مع مراكز القوى والتأثير ليجمع ثروة طائلة، ويحصل على مناصب وزارية عدة. أما رمزي (مسلم)، فأكمل دراسة الهندسة وصار مهندسا مرموقا يدير شركة عملاقة للمقاولات والبناء في أنحاء العالم، وشريكه رامز (مسيحي من إحدى الطوائف الشرقية)، يقرر بعد وفاة زوجته اعتزال الحياة والتحول إلى راهب في دير جبلي. وبلال(شيعي) ينضم إلى الميليشيات المسلحة ويقتل، فتصاب صديقته سميراميس (كاثوليكية) بانهيار عصبي طويل، وتتخلى عن دراسة الطب، ثم تحول مبنى للعائلة إلى فندق، وتتفرغ لإدارته.
يموت مراد بمرض السرطان. ويحاول آدم زيارته وهو يحتضر، ولكنه يصل بعد وفاته بساعات. ويمضي آدم ستة عشر يوما في فندق سميراميس محاولا لقاء الأصدقاء، وتنظيم اجتماع لهم في عطلة نهاية الأسبوع. ويتجمعون بالفعل في فندق سميراميس، ولكن قبل اكتمال عقد الاجتماع بساعة واحدة، تتعرض السيارة التي تنقل رامز وآدم من الدير إلى حادث، فيموت رامز، ويظل آدم في غيبوبة، وتنقله زوجته إلى باريس.
ولا أدري لماذا اختار معلوف هذه النهاية الصادمة والمفاجئة والمختلفة عن مسار الأحداث. وما أزال أحاول إعادة تشكيل الرواية في ذهني بأن الاجتماع قد عقد، ولم يتعرض أحد لأذى. ولكن المؤلف يملك قرارا قمعيا لا يمكن نقضه، وستظل الرواية على أن الاجتماع لم يكتمل. ولن يستطيع أحد، حتى أمين معلوف نفسه، أن يغير الأحداث في طبعة قادمة، وسنظل حزينين محبطين لهذه النهاية، وكأن التيه قدر لا مفر منه، ولا علاج له.
"التائهون" هي روايتي أنا شخصيا. وقد كتبت قبل أن أقرأها أنني أمضيت ثلاثين عاما من عمري محبوسا أبحث عن المفتاح، ثم اكتشفت أن الباب غير مغلق، فخرجت. ولكني أمضيت بقية عمري أبحث عن الطريق. فلم تكن الحرب اللبنانية حدثا خاصا بالنسبة لتلك المجموعة ولهذا الجيل. ولو لم تقع الحرب لظل التيه قائما بلا تغيير يذكر، لأننا في أماكن وبلاد أخرى من الجيل نفسه واجهنا التيه نفسه من غير حرب خاصة بنا، فما وقع حولنا من أحداث وتحولات أكثر من حرب كونية عاصفة!
ibrahim.gharaibeh@alghad.jo
الغد