ثمة روايات تُؤرقك،تُلقي بظلالها، تُبعثر المكنونات، تَهزُك، تجُرك الى عالمها، تُفتتك حسبما ترغب، تقلب المفاهيم الأزلية التي سيَجتَها في دواخلك منذ تعلمت القراءة، تستنطقك فكرتها وربما مفرداتها المتجلية في رحم الحدث... تقتحم الخبايا، تُحلق معها، لتقع في نهاية المطاف أسيرا لها، وتستشيط غضبا اذا أنهيت الورقة الأخيرة من الرواية.
في أجواء لا تخلو من غرابة ولغة تفصيلية قلقة، يستدرجنا باتريك زوسكيند في روايته الأميز "العطر" الى باريس وضواحيها المتخمة بالروائح في القرن الثامن عشر للتأمل في مفردات الحياة وماهية الانسان عبر طفولة بائسة وقامة ضيئلة يدعى "جان باتيست غرنوي" الذي ولد بلا رائحة في أزقة باريس ومستنقع قذر وأنف استثنائي يستحضر الروائح في ذاكرته ومهارة فائقة في شمها وفرزها بشكل تلقائي محددا نوعها ومكانها كاشفا طباع الناس وصفاتهم الخُلقية، ماجعله مهووسا بصنع عطر ساحر من أجساد النساء، لنتلمس من خلال أحداث الرواية المتسارعة موهبته في تخزين أرواح الفتيات الصغيرات في رأسه كي تظل رحيقا يعُب منه ساعة يشاء.
وفي سرد مشوق وعوالم اجتماعية ونفسية مثيرة، تبدأ رحلة غرنوي - نذير شؤوم لكل من يقترب اليه بدءا بوالدته التي أعدمت عندما أطلق صرخة وجوده وموت المرضعة "غايار" والدباغ "غريمال" والعطار "بالديني"وغيرهم - والرائحة التي أسرته في تلك الليلة التي يحتفل الناس فيها باعتلاء الملك العرش، يشم رائحة لا مثيل لها، يتبعها مسحورا مجتاحا بشهوة امتلاك العبق. تقع عيناه على فتاة في الرابعة عشرة من عمرها على بعد أميال منه..."عَرَقها منعش كريح البحر... ودهن شعرها كزيت الجوز.. وجلدها كزهر المشمش..." يقتلها خنقا بلا مبالاة، ويشمها حتى الثمالة كيلا يضيع شيئا من عبقها. فيدرك أن الجسم البشري يصدر روائح مميزة إما مقززة ومنفرة وإما بلا نكهة أو فاخرة وساحرة كرائحتها. يبرد الجسد ويفقد عبيره، مستفسرا عن عجزه لإمتلاك رائحتها. يدفعه الأمر للبحث في علم الروائح، والتحاقه بمحلات العطارة والمختصين في علم الروائح مطلعا على امكانية احتفاظ الجسد برائحته إذا أُحيط بالدهون. فيقرر في المرة القادمة أن يخزن العبق ويحلله في معمله محتفظا بالرائحة علَها تكون رائحته... هويته.... ومصيره العلوي.. لمن لا رائحة له. محققا هدفه الذي سعى اليه عبر موهبته الخارقة في تحسس الروائح أينما كانت، وصيغة سحرية مشتملة على كل ما يحتاجه لخلق رائحته المعجزة.
تستمر حالات القتل في حياته والحصول على روائحهن الطازجة في قوارير مقطرة في زجاجة خاصة، ويصل "غرنوي" الى الذروة عندما يشتم رائحة مثيرة لفتاة يقطع الكثير من الأميال للوصول اليها..." لم تكن تشبه الليمون الحلو او الكبَاد، ولا المرَ، او اغصان القرفة أو البتولا أو الكافور أو ابر الصنوبر، ولا مطر آيار أو ريح الجليد أو ماء النبع.. كانت رائحة دافئة، ليس كدفء الياسمين أو النرجس ولا كدفء النارنج او السروَ او المسك، وكدفء خشب الورد او الرنبق الملون ذي الأوراق السيفية...الرواية" فيقتلها لتنتهي بها سلسلة الجرائم، ويقبض عليه برائحته الوجودية - العطر التي خُلق من دونها.
في منصة الاعدام يرش "غرنوي" قطرات من عطره على الناس الذين صمموا على قتله، لكنهم يصابون بحالة من استلاب لا يستطيعون صدها يرفضون اعدامه ليحتفظوا بعبقه. في اللحظة التي تزيد كراهيته لهم ورغبة جامحة في سحقهم لأنهم حرموه من حقه في الحياة سابقا.
يفقد دافعه للبقاء بعد حين، ويلقي بنفسه منتحرا بيد آكلي لحوم البشر، ويحلق عبقه بين أياديهم معلنا: " أنا الوحيد الذي أدرك مدى جماله الحقيقي لأنني أنا من أبدعه.." تاركا لهم مهمة التغيير. فهم الأكثر جوعا للعبق البشري. لنصل الى ايمان زوسكيند بالرائحة:" بوسع البشر أن يغمضوا عيونهم ازاء ما هو عظيم أو مروع أو جميل وبوسعهم أن يغلقوا أذانهم ازاء الألحان والكلام المعسول لكن ليس بوسعهم الهروب من العبق، لأنه شقيق الشهيق معه يدخل الى ذواتهم ولا يستطيعون صده ان رغبوا في البقاء على قيد الحياة لأنه يدخل أعماقهم الى القلب مباشرة حيث يتم الفصل الحاد بين الميل اليه أو احتقاره.. الرواية"
في فكرة بالغة العمق، أضاف زوسكيند للرواية التي تصدرت الكتب الأكثر مبيعا منذ صدورها في ألمانيا 1986 تسع سنوات بلا منازع وترجمت الى 42 لغة وبيعت 15 مليون نسخة طابعا تأمليا مكثفا مختزلا ظاهرة الوجود بالذاكرة الشمية التي توازي ذاكرتي البصرية والسمعية مما منحها ابعادا فلسفية متعددة قلقة لا تنتهي بانتهاء قراءتها...
"العطر"... رواية الأكثر قلقا.