مرحباً بصديقتي الوفية ، مرحباً بصديقتي الجميلة ، مرحباً بصديقتي المتألقة ، في كل رحلاتي إلى الأماكن و مع الأشخاص أعودُ إليك ، لأن جميع الأماكن والأشخاص والوجوه والأرواح ليسوا سوى بعضاً منك . وفي كل رحلة ألم مهما طال أمدها ، أجدك تمنحيني تلك الحكمة القديمة بأن كل ما حولنا يتغير ، حتى الألم قد يتحول إلى شعور عذب بل إلى مركب نجاه لأننا ببساطة لا نعلم ماذا يخبيء الألم خلفه ، يأتي دائماً على أمواج من الدموع ، وعلى رياح الغضب ، وأمطار الحسرة ولكنه وفي كل مرة ومهما مر الزمن لابد أن يكشف عن الحكمة الصامتة القابعة بداخله ، لأن الله تعالى فقط من يعلم ونحن لا نعلم ، بل نتعثر في عالمنا المادي المحدود ونعتقد أن المستقبل هو ذلك الأفق الذي تراه أعيننا ولا ندرك أن هناك آفاق أخرى أوسع وأجمل وأرحب مما نراه ، فقط في رحلة مع الله العليم الحكيم يمكن لتلك الأكوان الأخرى أن تكشف عن نفسها بخجل وهدوء ، أكوان من السكينة ومن الأمن ومن الإيمان واليقين بأن كل ما بهذا الوجود فانٍ ، وأننا لسنا سوى عابري سبيل في كونٍ محدود.
صديقتي الحياة لم تكن صديقتي دائماً ، بل أحياناً كانت عدوتي ، لأنها تمنح وتسلب ، لأنها تُخلص وتغدر ، لأنها تتألق ثم تذوي ، لأنها يمكن أن تكون قبيحة أو حسناء ، لأنها قد تكون اليوم لي وقد تتنكر لي في الغد ، صديقتي الحياة لا تتعاطف مع الضعفاء ليس لقسوتها ولكن لتجردها لأنها هي أيضاً في مهمة في هذا الوجود مثلي تماماً ومهمتها تفرض عليها أن تمد يدها بكرم لأولئك أقوياء الروح والعقول ، لأنها تشعر بالأمن والثقة فقط معهم ، ولا تدري كيف تتعامل مع الضعفاء فتتركهم إلى ضعفهم إلى أن يجدوا طريقهم بأنفسهم وإن لم يجدوه لمحت لهم بمكانه ولكنها لا تأخذهم من يدهم أبداً وتقودهم نحو الطريق .
مرحباً أيتها الحياة ، بعد رحلة الخواء مع الآخر ، مرحباً أيتها الحياة بعد البحث المُضني عن المعنى فيما حولي ولكنه هنا في أعماقي ، مرحباً أيتها الحياة لجمالك الدائم ولكنه لا يُشرق إلا بنفوس عرفت أن الجمال الحقيقي هو محبتك رغم كل تقلباتك ، مرحباً أيتها الحياة معلمة الحكمة ، الهامسة بالشعور ، والمنسحبة أمام الحقد . في كل رحلات الحب والبحث والألم ، والشوق والغربة تبقي أنتِ الجدار الخلفي الصامت والصلب لكل أحداث الحياة ، فإن غرق أي منا بأحداث حياته ونسي ذلك الجدار الخلفي الذي يحتضن كل الوجوه وكل المشاعر وكل الأحداث كانت حياته ضيقة خامدة لأن الوجود ليس حدث وليس شخص وليس شعور ، الوجود هو هذه الحياة بشموليتها برحابتها ، بذكائها وعطائها ، إنها هي فقط من يحررك من سطوة شعورك وتفكيرك وقبل كل شيء سطوة الآخر . إنها هي من يمنحك الإبداع واتساع الفكر والتغلب على الألم ، تمنح كل هذا مقابل شرط واحد وبسيط وهو ألا تنسى أنها الجدار الخلفي لكل الأحداث .
أحب صديقتي لأنها طريقي نحو عوالم أخرى ، أحب صديقتي لأنها تحررني ممن حولي ومن أوهامي ، أحب صديقتي لأنه بكل يوم تشرق شمسها ، أحب صديقتي لأنها لا تعرف الحزن ولا الضعف بل تمضي قدماً وفي كل يوم بنفس الإصرار والإنفتاح والحب ، أحب صديقتي لأنها لا تتوقف طويلاً تتأمل أخطاءها ، لأنها حرة مبدعة جسورة ، وأحبها أكثر لأنها منحة الله تعالى لي ، فحبي لها هو شكري لما منح المُعطي الكريم ، وحبي لها هو حبى لله تعالى بأن أكون بهذه الحياة ، وأعلى درجات هذه المحبة هو القبول والرضى بما أراده الله تعالى لنا بهذه الحياة ، فنحن لا نأتي للحياة ونشترط أوصاف معينة للسعادة ، نحن نحيا بما يمنح الله تعالى لنا ، ويمكن لنا أن نرى البشاعة في كل ما هو جميل ، ويمكن أن نرى الجمال فيما هو بشع ، فالوجود والحياة يتحول لقرار نتخذه بدايةً ونهايةً في عقولنا حيث ترتسم الحياة دون إرادة منا ثم نرسمها بإرادتنا . وحين أدرك أنني عابرة سبيل في طريق صديقتي ، وأنني رقم بين ارقام أخرى ، وأنني ضيفة لوقت معلوم لها وغير معلوم لي ، فلابد أن أتمسك بهذه الصداقة لأنها راحلة ، لابد أن أرى صديقتي بعين الرحيل لا بعين البقاء . وإلى أن يحين الرحيل تبقى هذه الحياة مركبي الهاديء في أمواج المجهول ، وظلي الوارف حين تجف القلوب ، ولمسة حانية حين تقسو الأرواح . وحين يأتي الفراق ولا يبقى سوى أنت وأنا ، أدرك حينها لأي حد سأشتاق إلى بهاءك في رحلة إلى مجهول آخر لا يعلمه إلا خالق هذا الوجود ومانح هذه الحياة ، ثم يأتي اليقين الوحيد بأن هذه الحياة بجمالها وبكل ما فيها ليست سوى منحه تُمنح ثم تُسترد ، وأدرك أيضاً بأن صديقتي فانية مثلي .
* روائية ومحامية اردنية