رسالة مفتوحة إلى اللجنة الاستشارية للتعليم
يشير تشكيل "اللجنة الملكية الاستشارية للتعليم" إلى أن حراكا بدأ يدب في أوصال وعبر قنوات إدارة المستقبل في الأردن. وأرى من واجب كل من يحمل فكرة جديدة في تطوير التعليم أن يرفد بها كل أو أي عضوء من أعضاء اللجنة التي يتوافق تكوينها مع "حركة مواطن القوة" التي بدأت تحقق نجاحات وتثبت وجودها عالميا، ومع طرح "التمتين" كمدخل استراتيجي لتصحيح مسار الاستثمار البشري.
وبصراحة ومسؤولية أقول بأن أي تغيير في اتجاه بوصلة التعليم لن يتحقق له النجاح ما لم يشرع نوافذ واسعة، ويطرق أبوابا جديدة ويسير في اتجاه معاكس لما تنحو إليه كل نظم التعليم الحالية في الأردن وغيرها، بما في ذلك أكثر الدول تقدما.
من الأساس، بني نظام التعليم في المدارس والجامعات، على أساس ضعيف. فهو نظام علاجي يقوم على تقوية نقاط الضعف وإصلاح الأخطاء، لا على (تمتين مواطن القوة) واستثمار المواهب وإطلاق طاقات الإبداع. قد تبدو العبارات السابقة عناوين براقة لصيغ بلاغية معادة ومكررة، لكنها ليست كذلك.
ذهبت نظم التربية والتعليم والقياس والتقويم من البداية في الاتجاه الخطأ لأنها كانت وما زالت تنحو إلى تصنيف الطلاب بناء على شخصياتهم، مركزة على عيوبهم وهناتهم ومشكلاتهم لتخليصهم مما يحول بينهم وبين التألق والتعملق والتفوق. وبدون قصد أو عمد، ترسل الأسرة والمعلمون والمدارس والجامعات رسائل متواصلة للطلاب والطالبات، صغارا وكبارا، فحواها: "عالجوا نقاط ضعفكم، وصححوا أخطاءكم، وانجحوا في المواد والمساقات، وانسجموا مع معايير القياس الخاطئة، لتحصلوا على درجات عالية تدخلكم الجامعة – أي جامعة – لتدرسوا التخصص الخطأ، وتتفوقوا في مجال لا يناسبكم، وتعملوا في وظائف لا تريدونها أو لا تريدكم." وبهذا المنحى ندخل في خلد وفي عقول الجميع؛ حتى المعلمين والمربين والأكاديميين أن الهدف النهائي والوحيد لتخريج الطلاب من المدارس هو دخول الجامعات. وهذه هي النتيجة أو النتائج:
- كليات وتخصصات القمة، تقبل ذوي المعدلات المرتفعة بغض النظر عن مواهبهم ومواطن قوتهم.
- عدم التفريق بين الذكاء العلمي وبين الذكاءات الأخرى ومنها: الذكاء التنفيذي والجماعي والعاطفي والفني.
- فاقد هائل في إعادة الاستثمار في التعليم بعدما يكتشف المهندس أنه يميل للفنون، أو يضطر خريج الصيدلة للحصول على شهادة في إدارة الأعمال لينجح في مهنته.
- جمود وثبات في هرمية مناهج التعليم التي تأخذ اتجاها طبقيا تنازليا يضع الرياضيات والعلوم على القمة (تضخم الرأس) تليها علوم اللسان (اللغات والإعلام) تليها العلوم الاجتماعية والإنسانية، لتبقى الفنون الحركية وكل مهارات الأيدي (الرسم والموسيقى) والأقدام (الرياضة والرقص) في أسفل الهرم.
نشرت مجلة الإيكونومست الشهر الماضي دراسة أعدتها "ماكنزي" عن أفضل نظم التعليم في العالم، فاحتلت: كندا وفنلندا وسنغافورة واليابان وكوريا المراكز الخمسة الأولى. ومن المثير للعجب لا الإعجاب؛ أن ألمانيا – مثلا – هي أكثر دولة في العالم تصرف على التعليم وتحديدا على المعلمين، لكنها تخلفت عن كوريا التي ابتدعت نظاما خاصا يجعل المعلم أكثر ثراء لا أكثر ثروة.
ومن متابعة دقيقة على مدى العامين الماضيين وتحليل ومقارنة نتائج سلسلة رائعة من أبحاث (التمتين وحركة مواطن القوة) سجلت عددا من الملاحظات الصادمة، والتي لم يلتفت إليها أحد من أساتذة التربية وخبراء التعليم حتى في أكثر الدول تقدما. ومنها:
- مخرجات التعليم الحالية هي: طلاب عاديون ومعلمون عاديون وموظفون متوسطو الأداء، لأن كل مناهج التعليم تنحو إلى علاج نقاط ضعف الطلاب وتحسينها إلى المستوى المتوسط. في حين أن نظرية "جيد إلى رائع" تؤكد أن تحسين الضعيف لا يعطينا جيدا، وأن تطوير الجيد لا يعطينا متميزا.
- تحاول نظم التعليم حتى أكثرها عصرية وانتقائية البحث عن المفقود (الهنات والمشكلات) وتهمل الموجود (المواهب والملكات). وهذه محاولات يائسة لتنمية شخصيات متكاملة وعبقرية يتميز أصحابها في كل شيء، وهذا مستحيل. مثل تعليم الأرنب كيف يسبح، وتعليم النسر كيف يزأر، وتعليم الأسد كيف يطير.
- لم ينتبه التربيون والمعلمون إلى أن كل نجم عالمي وكل مبدع في مجاله، وكل متميز في مسعاه، لا يستخدم إلا مهارة واحدة أو ملكة واحدة أو نقطة قوة واحدة ليصبح نجما يشار إليه بالبنان. وينطفىء بريق النجم فورا إذا ما حاول توظيف أكثر من ملكة ليحقق التميز. كان "همنجوي" مبدعا في أسلوبه الأدبي ويخطىء في الإملاء والقواعد، وأصبح "تايجر وود" الأول في العالم اعتمادا على رمياته الطويلة رغم ضعفه الشديد في الضربات القصيرة، ويعتمد "باراك أوباما" على حضوره الذهني رغم قلة خبرته، وأصبحت السيدة "رولنج" أشهر مؤلف في التاريخ بسبب قدرتها الفريدة على ابتكار الشخصية ولغتها. وهكذا .. كل النجوم في كل المجالات يتميزون عن كل من سواهم بمهارة واحدة فقط، يتم استثمارها بشغف وبلا هوادة.
وإذ أتمنى أن تكون رسالتي المفتوحة للجنة الاستشارية للتعليم واضحة، أقترح على قيادتها ورئاستها وإدارتها النظر بجدية إلى تنظيم مؤتمر عالمي في الأردن حول "التمتين" بعنوان: (تصحيح مسار الاستثمار البشري) .. بهدف استقطاب الخبراء العالميين المتميزين في "التمتين: والذين يعدون على الأصابع، وإعادة توجيه بوصلة التعليم من علاج المشكلات إلى إدارة المواهب واستثمار الملكات. فالتمتين هو: (قوة الأسد في البيداء، والتمساح في الماء، والصقر في السماء). وبخبرتي المتواضعة واطلاعي المحدود، أقول: "ليس هناك من سبيل آخر." وهذا بالمناسبة "تفكير داخل الصندوق" وليس خارجه، لأنه يعني العودة للأصول. فلكل إنسان مواهب فطرية وملكات طبيعية، يجب أن يتعلم ويعمل بها وعليها.
smadi@edara.com