ما أن طرحنا حال المرور في المملكة وآداب القيادة حتى انهالت مكالمات المواطنين من كل اتجاه، مصوبةً سهام اتهاماتها في أزمة المواطن والطريق إلى أفراد شرطة السير و"قراراتهم التعسفية" ضد المواطن.
البعض يرى أن مزاجية لافتة تحكمُ العلاقة بين الشرطي والسائق، وتجزم أن نوع سيارتك وسنة صنعها وأناقة سائقها، ونوعية الركاب، تتحكم في المشهد، وتشي بأن فجوةً تتسع كل لحظة لتؤول إلى أزمة ثقة "وقلوب مليانة" بين الطرفين، فيما سلامة الطريق وتواصل مسلسل الحوادث المأساوية التي دفعنا بسببها العام الفائت ما يناهز عن تسعمائة ضحية هي في آخر الطابور.
قبل أن يتم تسكيني في خانة أحد الطرفين، دخلت رهاناً مع نفسي، وبدأت باحتساب أعداد السيارات التي تمر من أمامي عند مدخل الدوار السادس ممن يستخدم أصحابها الهواتف الخلوية أثناء القيادة، وخرجت برقم "يخُض، "كانت النسبة تتردد بين سبع إلى ثماني مركبات من كل عشر، ينشغل سائقوها باستخدام هواتفهم أثناء القيادة.
ثم عدت لتلك الموجة من الاتهامات المتبادلة على الهواء بين الشرطة والناس، وكأن أحد الطرفين محلي، والآخر آت من مكان آخر.
المشكلة أن الشعب برُمته، لا يعرف القيادة إلا على يسار الطريق، ولا يفضل أن يجري حواراته التلفونية "الساخنة" إلا أثناء قيادته، ولا يتورع عن التأثر بمجريات الحوار التلفوني المحمول خلال القيادة، فتراه يتحرك أو يتفاعل مع حديث على الجانب الآخر، المكالمة مستمرة، "يَسْحلُ" من مقعده جراء حوار ناعم مع الطرف الآخر، ينفعل ويصرخ ويومئ بإشارات مفاجئة، ويُبدي حركات انفعالية في جسده ويديه؛ المكالمة مستمرة، يضحك ويشتم ويدخن، ولعله يتناول لقمة سريعة على الطريق في نفس اللحظة، والمكالمة مستمرة، يتجاوز ويغير مسربه عدة مرات، ويلعن حظه الذي أوقعه خلف هذا السائق الذي يعتبر الشارع "ملكاً لوالده". وينطلق، والمكالمة مستمرة.
نعلن أننا فوجئنا خلال إجراءات تجديد الترخيص بـ"كمشة" مخالفات مُحتسبة علينا، جُلها تتعلق باستخدام (الموبايل) أثناء القيادة. نعترف بالسر أننا نفعل ذلك دوماً، لكننا نحتفظ لأنفسنا بحق أن نتفاجأ.. نثور على مدير السير عند ظهوره على برنامج إذاعي، ونحاوره أثناء قيادتنا باستبسال حول حقوق المواطن ومكتسباته، وبالمناسبة.. المكالمة ما تزال مستمرة.
ويُمعن جيلٌ كامل من الشباب الأردني في الجريمة، فيذهبون إلى أبعد من ذلك، ويتَفنون بكتابة الرسائل النصية الطويلة على الطرق، يبعثون بها ويستقبلونها، يُعَلّقون ويُنَكّتون، ويجدون إشارات الابتسامة والتعجب والغضب على هواتفهم أثناء القيادة، عينٌ على لوحة الحروف وأُخرى غارقة في غياهب المعاني والمشاعر والتعبيرات.
ندرك أن الانشغال في الهاتف أثناء القيادة يعد الآن ثاني أكبر الأسباب المؤدية لحوادث السير الكبرى بعد السرعة، وأكدت الدراسات أن استخدام الهاتف يعرض السائق لخطورة أكبر بمعدل 3 مرات من عدم استخدامه، وأكثر بمعدل 10 مرات عند قراءة الرسائل، وأكثر بمعدل 20 مرة عند استخدامه لكتابة رسالة.
ودلت دراسات عالمية مهمة، إحداها في جامعة يوتا الأميركية، أن التحدث في الهاتف أثناء القيادة لا يقل خُطورة عن القيادة تحت تأثير الخمور.
على الشرطة التوقف تماماً عن إصدار مخالفات غيابية بحق السائق على الطريق، لا لأنه بريء من تهمة الانشغال بهاتفه اثناء القيادة، ولكن حتى نُسد باب الهوى والمزاج الشخصي أولاً، ونُبدد شكوك الناس، ونثبت لمن يدعون براءتهم باليقين والحجة، أنهم يستحقون المخالفة ثانياً وعاشراً.
على السير وقد فتح مديرها العميد جمال البدور صدره رحباً لكل التساؤلات، أن يعززوا آليات ضبط لا تُعطي للفرد مساحةً للاستئثار بقرار سيبقى مَطعوناً به طالما أنه يواجه أولئك الذين يُمعنون في الممارسة وبنفيها في الوقت ذاته، فيما مكالماتهم مستمرة!
hani.badri@alghad.jo
الغد