في زمن لم يكن بعيدا جدا، بادرت الحكومة إلى سن قانون يقضي بإلغاء التعاطي بالألقاب على اختلاف درجاتها، كونها اعتبرت تقليدا رجعيا يعود في جذره إلى مخلفات العهد العثماني، الذي كرس مفهوم الطبقية الجائر وصّنف البشر من دون وجه حق إلى باشاوات وحراثين.تمت تلك الخطوة المتقدمة والجريئة بموجب قانون عصري مستنير صدر في العام 1954 حيث اعتبر استمرار التداول بالألقاب مخالفة صريحة لأحكام القانون.
ولا يسع الواحد منا، سوى التحسر على قانون كهذا، نص وعمل على الحد من كل مظاهر الطبقية البغيضة، وسعى إلى تطبيق روح الدستور القائم على أساس مبادئ الحرية والمساواة والعدالة للأردنيين جميعا من دون استثناء.
ومن الطبيعي إن يصيبنا الهلع جراء هذه المجانية وهذا التمادي في التنابز بالألقاب الأكثر"فخفخة"! في سياق المجاملات التي تصل حد النفاق الاجتماعي الممنهج بل وتزيد.
ثمة استسهال غير مقبول نمارسه جميعا بشكل آلي، تجسيدا لعادات استشرت واستحكمت فتحولت إلى عرف مجحف وغير حضاري.
كلنا يدرك تلك الفكرة النمطية غير البهية عن صورة الاردنيين، إذ يطرحنا البعض كشعب محب للوجاهة والظهور، حتى أن مصطلح معالي الشعب الأردني ليس بمستهجن لدى الكثيرين، وللإنصاف فإن لهذه الفكرة ما يبررها، إذ تكاد كل عائلة أردنية تضم بين أفرادها وزيرا حاليا أو سابقا أو أيا من المناصب الرفيعة، ومن النادر أن تلتقي بأردني لايحمل هو أو احد أقاربه أومعارفه ألقابا من عيار بيك، عطوفة، باشا، معالي، دولة، والقائمة تطول وتترسخ في أدبيات خطابنا اليومي لتصبح واقعا أكثر تأثيرا وقوة من كل النصوص القانونية التي تنظم علاقاتنا ومصالحنا كما هو مفترض.
ويكفي أن نتأمل قليلا في سيل إعلانات التهنئة في الصحف كي نقف على مدى انسياقنا، خلف شكليات هي خطايا إنسانية نأمل أن يكون الزمن قد اصدر عفوه عنها، لأن من شأنها أن تكبل أذهاننا وتعرقل قدرتنا على التماهي مع مفردات العصر، الذاهبة بعيدا باتجاه تبسيط وتكسير كل حواجز الاتصال في قريتنا الكونية الكبرى.
من هنا يبدو تمسكنا بملامح ارث بائد، غير عملي وغير منطقي، ولا يعمل إلا على خلق مزيد من الحواجز بين أبناء الوطن، بما يتنافى مع ما تميز به الأردنيون في جوهرهم كشعب طيب وبسيط، يمقت التكلف غير معني بالمظاهر مهما اشتد بريقها.
وإذا كانت الحكومة عازمة حقا العمل على الحد من جيوب الفقر والتصدي لمسوغات اتساعها، فإنه ينبغي عليها من باب أولى تبني سلسلة إجراءات إصلاحية توعوية، تعمل على الحد من اتساع الفوراق بين فئات المجتمع، وتحقيق مبادئ المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص، ولا ضير من تفعيل قوانين مهملة بلغت من العمر عتيا، غير أنها كنوز قيمة علينا فقط نفض الغبار عنها وبث الروح فيها.
المهمة ليست مستحيلة لكنها تتطلب تضافر جهود مخلصة ووجود رغبة فعلية في التغيير للاتفاق على ميثاق شرف تتبناه الحكومة ومجلس النواب وكافة الجهات المعنية، يتم من خلاله اعتماد وسائل أقل تكلفا وتفخيما في التخاطب وتفعيل إلغاء العمل بالألقاب، وقد آن الأوان لنترجم شعارات تروج للتغيير نحو الأفضل إلى أفعال مجدية تحد ولو قليلا من هذه الفوضى غير الخلاقة!!