نزاع "المبادئ" و"المصالح" في عالَم السياسة
جواد البشيتي
02-03-2013 05:23 AM
عالَم السياسة (الواقعي الحقيقي) هو، في بعضٍ من معناه، العالَم الذي فيه يتجلَّى النزاع بين "المبادئ" و"المصالح"، أي بين أن يعمل المنتمي إلى هذا العالَم بما يوافِق المبادئ التي يؤمِن بها وبين أن يعمل بما يَخْدُم مصلحة له (مادية أو اقتصادية في المقام الأوَّل) تتعارَض، كلِّياً أو جزئياً، مع التزامه المبدئي؛ أمَّا عالَم المال والأعمال والتجارة، فهو العالَم الذي تستبدَّ بالمنتمين إليه المصالح، وتُنْبَذ المبادئ (ولو كانت في منتهى السمو) إنْ لم تجرِ رياحها بما تشتهي سفينة المصالح، فإنَّ المصلحة (المادية) في هذا العالم تعلو ولا يُعْلى عليها.
وفي "العولمة"، وبها، أصبح عالَم السياسة يزداد شبهاً بعالَم المال والأعمال والتجارة حتى أنَّ تمييز أحدهما من الآخر غدا من الصعوبة بمكان؛ وهذا التشابه المتنامي هو ما جَعَلَنا نرى منسوب الفساد يرتفع، ويزداد ارتفاعاً، في عالَم السياسة، الذي كلَّما توغَّلْنا في ماضيه رَأيْنا نفوذ المبادئ فيه أقوى وأوضح.
الرؤية الموضوعية، أي رؤية الأمور والأشياء على حقيقتها، وفي حجومها الحقيقية، في عالَم السياسة، ليست دائماً في متناوَل الأبصار والبصائر؛ ولا شكَّ في أنَّ أزمة الرؤية السياسية هي في المقام الأوَّل "أزمة تفسير وتعليل"، فنحن لا نختلف، وينبغي لنا ألا نختلف، في بديهية كبرى هي أنَّ الظواهِر والأحداث في عالَم السياسة مُمْكِنة التفسير والتعليل بمبدأ من مبدأين اثنين لا ثالث لهما: "المبدأ المثالي (الفكري)" و"المبدأ الواقعي".
ولو لم يكن "المبدأ المثالي" مُفسِّراً معلِّلاً للظواهر والأحداث السياسية لَمَا تجرَّأ أحد القائلين به على المغالاة في أهميته قائلاً "إنَّ الفكر يَحْكُم العالَم".
لكنَّنا نختلف، ولا بدَّ لنا من أن نختلف، في أمْرٍ أكثر أهمية، هو الإجابة عن السؤال الآتي: "إذا كان كلا المبدأين يصلح تفسيراً لعالَم السياسة، فأيُّ المبدأين يُفسِّر الآخر؟".
إنَّني من القائلين بـ "المبدأ الواقعي" مُفَسِّراً، أو تفسيراً، لـ "المبدأ المثالي"، بأوجهه وصوره المختلفة، ففي نهاية السلسلة من "الأسباب المثالية"، يَظْهَر لنا آخرها، ولا بدَّ له من أن يَظْهَر، على أنَّه "النتيجة المثالية" التي تَتَّصِل مباشَرةً بـ "سببها الواقعي"، فالفكر يَحْكُم العالَم؛ لكن ليس حُكْماً أُوتوقراطياً، وإنَّما حُكْم مقيَّد بـ "دستور"، هو كناية عن الواقع وقوانينيه.
وإيَّاكم أن تظنُّوا أنَّ هذا الذي قُلْت هو أمْر نظري (أو فلسفي) لا صلة له بالواقع (أو الحياة) فهو وثيق الصلة به، وإن بدا لنا الأمر غير ذلك في بعضٍ من القضايا.
لو سألْتَ أحد القائلين بـ "المبدأ المثالي"، تفسيراً وتعليلاً، عن سبب الحرب، لأجابكَ على البديهة قائلاً "إنَّ سببها يكمن في نزعة الشرِّ المتأصِّلة في نفوس البشر"؛ وينبغي لنا، إذا ما أردنا للسلام أن يعم ويسود، أن نُصِلح نفوس المولعين بالحروب، وأن نشرح لهم مثالب وشرور الحروب، وأن نبصِّرهم بعواقبها، وأن نغرس في عقولهم "ثقافة السلام"، وكأنْ ليس للحرب من أسباب واقعية، قد تَحْمِل حتى الكهنة و"الغانديين" على أن يصبحوا لها أمراء وقادة!
ولو سألْته عن سبب إخفاق جهود ومساعي السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، على كثرتها، لأجابكَ على البديهة قائلاً "إنَّ السبب يكمن في كَوْن الدولة العبرية غير محبَّة للسلام"، فلو حبَّبناها به، وجَعَلْنا له مكاناً في قلبها، كأنْ نتوفَّر على إقناعها بجدوى ومزايا وفوائد مبادرة السلام العربية، لتبدَّلت مشاعرها، ولجنحت للسلام. إنَّ إسرائيل لا تُحب السلام؛ لأنَّ العرب في واقعٍ يَحْملهم على استجداء السلام استجداءً، فلو أصبحوا أقوياء لاكتشفوا أنَّ إسرائيل تحب السلام!
ولو سألْته عن سبب انحياز الولايات المتحدة الأعمى إلى إسرائيل (ضد العرب والفلسطينيين) لأجابكَ على البديهة قائلاً "إنَّ السبب يكمن في تقاعس العرب عن شرح قضيتهم العادلة للولايات المتحدة"، فلو هُم أنفقوا مزيداً من الجهد والوقت، توصُّلاً إلى تعريف زعماء القوَّة العظمى في العالَم، وتثقيفهم، بقضيتنا، لأنارت هذه المعرفة دروبهم، ولَجَعَلتهم ينحازون إلى "الحقِّ"، وإلينا من ثمَّ.
ولو سألْتَه عن سبب غزو الولايات المتحدةة للعراق، لأجابكَ على البديهة قائلاً "إنَّ السبب يكمن في أنَّ الصليب قد قرَّر، عبر ممثِّليه (إدارة الرئيس بوش) استئناف الحرب الصليبية ضدَّ الهلال"؛ فالنفط ليس بالسبب؛ لأنَّه دنيوي تافه، وهل يستوي الدنيوي والديني؟!
في عالَم السياسة، نرى دائماً من له مصلحة حقيقية في نشر وبثِّ الأوهام، وفي (من ثمَّ) إخضاع الأبصار والبصائر لهيمنة "المبدأ المثالي" في تفسير وتعليل الظواهر والأحداث السياسية، فهذا المبدأ، على ما أثبتت التجربة السياسية، لا يَصْلُح إلاَّ للنساء والعبيد، أي لكل من فُرِض عليه العيش في واقعٍ يُضيِّق الأُفْق.
jawad.albashite@alarabalyawm.net
العرب اليوم