تتباحثون وتتشاورون وعن رئيس وزراء سحري تتحدثون، لكن ماذا بالضبط تريدون؟ معظمنا، لا يأبه "بكولساتكم"، ولا بحكاياتكم، التي تقترب من النميمة، أكثر منها من نقاشات فكرية أو سياسية، فماذا بالضبط أنتم فاعلون؟
الذي يحيرني، قدرتكم على الفصل التام بين ما يجري من غلاء تدريجي، واجراءات تحرم المواطن من فرص العلاج، سواء من خلال رفع تسعيرة التأمين، أو فرض إيجار على نقل المريض، ولو كان يصارع الموت في سيارة اسعاف، وبين لقاءاتكم و تداولاتكم حول اسم رئيس حكومة موعود، ولم يصدر عنكم همسة تساؤل، ولا أقول استنكار، لما يدور من حولكم، وكأنكم في كوكب آخر تعيشون.
الواضح أن هناك اطمئنانا مريبا، لتراجع الحراك الشعبي، ولخفوت حدة الصراخ، وكأن الوجع يصبح غير مرئي أو مسموع، وبالتالي توهمون أنفسكم أنه ليس حقيقياً، ولم تكن كلها سوى ضجيج، يؤذي آذانكم ويشغلكم عن اتباع أهواء مصالحكم.
لن أطلب منكم التجول في جيوب الفقر في عمان وفي قرى الطفيلة أو ذيبان، فلن تغدو هذه الزيارات سوى حملة علاقات عامة تخدعون فيها من بحاجة إلا أن يشعر بأن هناك من يسمع أو يستجيب.
لكن سأحدثكم عن رحلة قصيرة قمت بها قبل شهرين إلى بلدة ذيبان مع صديقين هما أصلا من أهل اللواء، لزيارة الناشط عدنان هاوشه بعد خروجه من المعتقل؛ هناك في خيمة بجانب بيت أهله تجمع الرجال والشباب والفتيان، ولما عرفوا أنني صحافية، سبقوا أسئلتي، بالبوح عن حزن وغضب وصدمة لا يعرفها إلا من وجد نفسه مهمشا منسيا.
الكلام المتدفق كان يروي الحكاية نفسها، تقريباً، عن آباء أمضوا معظم حياتهم في خدمة أجهزة الدولة وبعد التقاعد وجدوا أنفسهم في رحلة بحث عن عمل، أي عمل، وعندما يجدونه يكتشفون، أنهم بالكاد يستطيعون، أن يوفروا مصروف عائلاتهم وتدريس أبنائهم وبناتهم في الجامعات، لعل في الشهادة ما يؤمن رزقا ومستقبلا.
عن صدمتهم، بأن الشهادة مهما عَلت في درجتها العلمية والأكاديمية لا تعني الكثير، عندما تواجه حقيقة الحياة العملية، لا من حيث المكانة الاجتماعية ولا من حيث الدخل الضئيل، وبقيت كلمات أم عدنان الهاوشة، الأكثر تعبيراً حين استقبلتني في بيتها: "قالوا لنا العلم أهم شيء وصدقناهم، وعلمنا أولادنا وبناتنا وما النفع، فأحوالنا باتت أصعب".
وجدتني أتعرف على بعض الوجوه، التي رأيتها في صور مسيرات ذيبان، مهد الحراك الأردني، ومن بينها شاب كان يظهر دائما باللباس الأسود، ومثلَ أمامي في الصيوان الخيشي متشحاً بالسواد، الذي يزيد من سمرته سُمرة، وكان يخاطبني، بقهر لكن دون ذلّ.
التصقت صورة الشاب وصوته في مخيلتي، واتصل بي بعد يوم يحدثني عن سوء وضع عائلته بالتفصيل، معتمداً علّي في نقل صورة تشرح، طعم المعاناة التي تعيشها عائلات أردنية مكافحة، وأن يفهم، من لا يفهم أو لا يعرف، صرخة الألم خلف الشعارات الخارقة للسقوف والحدود.
كتبت مقالا عنه، لكنني اكتشفت قبل النشر، بأنه بالغ بعض الشيء، وبدأت أتلقى مكالمات من شباب حراك ذيبان يعتذرون عن "مبالغة صديقهم" وكأن في حديثه ما خدش كرامة الحراك، وأكثر ما كانوا يرفضونه أن تعتقد السيدة القادمة من المدينة، أن من بينهم من يتوسل أو يتسول.
الشاب نفسه، بعث لي رسالة تلفونية "يعتذر عن ازعاجه لي"، فوعدته بزيارة ثانية أطول مدة للاضطلاع بنفسي، وبالتفصيل على وضع قرى ذيبان. اضطررت وقتها إلى سحب المقال قبل نشره، التزاماً "بالدقة" و"المهنية الصحافية"، مع أنني لم أكن أشعر أن الشاب "كذب"، لكنه لم يثق في قدرتنا، نحن الذين نعيش في بحبوحة كلية أو بحبوحة نسبية، على استيعاب حقيقة مشاعر أب، يقتله عجزه عن توفير لقمة العيش والدفء لعائلته.
ولاحقني وجهه منتفضاً دائما، في تعبير يخفي وضوح معالم وجهه، الأكثر هدوءا، عندما تقابله بعيداً، عن الهتافات، وفهمته أكثر؛ لأنه كغيره من شباب الحراك خرجوا إلى الشارع للقتال من أجل حقوق عائلاتهم، وأحبائهم، لأن الوطن ليس فكرة مجردة، لكنه أصيب في روحه بتراجع الحراك، لأنه في النهاية وبعد كل شيء يعود إلى بيته ليواجه نظرات أطفاله ولن أقول حاجاتهم بل احتياجاتهم.
أسأل المتشاورين والباحثين عن رئيس وزراء مفقود، هل تتجرؤون على النظر في أعين أطفال الشاب المتشح بالسواد في بلدة ذيبان؟ وهل كان عليه أن "يكذب كذبة صغيرة"، حتى يواجه "كذبتنا الكبيرة"، وأتوجه إليكم بالسؤال مجددا ماذا بالضبط تريدون؟
l.andony@alarabalyawm.net
العرب اليوم