رواية "البيت الأندلسي" لواسيني الأعرج
17-02-2013 05:07 PM
عمون - أقامت لجنة أصدقاء المكتبة في منتدى الرواد الكبار ندوة لمناقشة رواية "البيت الأندلسي" للروائي الجزائري واسيني الأعرج وذلك بمشاركة الدكتور محمد سلام جميعان والدكتورة رزان ابراهيم، ونخبة من الكتاب والأدباء في مقر المنتدى الكائن في عمان/ أم السماق، وذلك ظهر (السبت الموافق 16 شباط الجاري)، في مقر المنتدى. وكانت رئيسة المنتدى هيفاء البشير رحبت في مستهل الندوة بالحضور، مؤيدة لفكرة مناقشة "كتاب" في ظل غياب القراءة عن مجتمعاتنا، كما قدمت عضو اللجنة رغد ملحيس ملخصا للرواية قدمت فيه رؤيتها لها، في الندوة التي أدارها المدير التنفيذي للمنتدى عبدالله رضوان.
د.محمد سلام جميعا: تلويحات نقدية في رواية (البيت الأندلسي) لواسيني الأعرج
تتوقف رواية ا لبيت الأندلسي عند سرد حكاية البيت الذي أنشأته شخصية موريسكية تدعي سيد أحمد بن خليل، المهجر قسراً من أرض أجداده في غرناطة، في القرن السادس عشر، وقد أنشأ هذا البيت في مدينة الجزائر حيث انتهى به المصير ليكمل حياته وليستمر البيت بعده عبر خمسة قرون حتى وقتنا الراهن الحاضر.وتمر بالبيت جملة من التحولات المحكومة بغلواء المصالح ويعوض ببرج لا يحمل من الإرث الأندلسي إلا ما هو قِشري وهامشي. وفي غمرة هذه التحولات تخفق كل المحاولات للحفاظ عليه لأن قوى السوق ورأس المال تفوق قوتها قوة مالكيه، وهنا يبدو الاقتصاد أقوى من التاريخ، والمنفعة أشرس من التراث فالتاريخ لا قيمة له إلا من حيث هو قوة أيديولوجية.
وجاءت فكرة بناء البيت من كون سيدي أحمد الروخو(غاليليو) وزوجته سلطانة ألونسو كانا معجبين بالفن المعماري الأندلسي فاتفقا على بناء بيت أندلسي بالعاصمة الجزائرية شبيها ببيوت حي البيازين بغرناطة التي كان يسكنها ملوك الطوائف،ويكون هذا البيت قبلة للفنانين و الموسيقيين.
وقد عرف البيت الأندلسي عدة أحداث مختلفة ومتنوعة منها السار ومنها المحزن إلى أن انتهى بيد مراد باسطا الذي ورثه وورث معه المخطوطة التي تعود إلى جده سيدي أحمد. الذي كان وصيا عليها،وهو الذي رعاها وحافظ عليها من الضياع إلى آخر لحظة في حياته: (حافظوا على هذا البيت، فهو من لحمي ودمي. ابقوا فيه ولا تغادروه حتى ولو أصبحتم خدما فيه أو عبيدا.. أإن البيوت الخالية تموت يتيمة".
وهذه المخطوطة تحكي تاريخ العرب في الأندلس وما تعرضوا له من مآس ومن انتهاكات قمعية وعنصرية نفذتها محاكم التفتيش.
استثمر واسيني الأعرج هذه المخطوطة واتخذها ذريعة لكتابة تاريخ العرب في الأندلس من وجهة نظر روائية، وما واجههم من أحداث دونونها بلغة الخيميادو وتسجل تاريخ العمارة الأندلسية في الجزائر وما عرفته من أحداث وانتكاسات عبر فترات مختلفة من تاريخها،وكان البيت الأندلسي رمزا لذلك،حيث إنه تحول في فترة الاستعمار الفرنسي إلى بلدية، ثم إلى إقامة لنابليون الثالث وزوجته، ليتحول في فترة الاستقلال إلى فضاء للغناء الأندلسي، محققا ما تمناه سيدي أحمد وحفيده مراد باسطا،لكنه فيما بعد سيتحول إلى حانة ومكاناً لإبرام الصفقات المشبوهة بين كبار المجرمين، ومركز لتهريب المخدرات ثم بعد ذلك تمت إزالته لبناء برج الأندلس مكانه.
وفي البعد الدلالي تنطق هذه الرواية بدلالات أعمق من كونها قصة وحكاية بيت قصة الاستحواذ عليه، إنها كما يقول الكاتب في واحد من لقاءات الإعلامية:" استعارة مُرّة لما يحدث في كل الوطن العربي من معضلات كبرى تتعلق بصعوبة استيعاب الحداثة في ظل أفق مفتوح على المزيد من الخراب والانكسارات. البيت الأندلسي هو الوطن العربي ممثلا في الجزائر، هو جشع الطبقات الصاعدة التي لا تتوانى عن إزهاق الأرواح وتخريب البلد لحساب مصالحها الشخصية، هو البلادة العربية والوطنية الغائبة، هو التجارة باسم الدين وتطبيق الشريعة باسم المصالح".
يمكن اعتبار رواية البيت الأندلسي لواسيني الأعرج توثيقاً أدبياً وفنياً لواقعنا العربي والصورة النمطية الذي يعيشها، ـ وإذا كان للاستعمار دور في كل ما حدث، فإن للورثاء الجدد الدور الحاسم: لأنهم فشلوا، حتى في الحفاظ على مخلفات الاستعمار العمرانية، والتنظيمية، والإدارية، كم تشي الرواية بذلك وهي تترسم عبر ثماتها السردية كيف حول الفرنسيون هذا البيت إلى دار للبلدية، مدركين أهميته التراثية والعمرانية، وما يقابل ذلك معرفياً من استفادة الإسبان من الميراث الحضاري، والدور التنويري الذي قام به العرب تجاه أوروبا. لكن واسيني يؤكة فكرة موازية وهو يعتب على موسى بن نصير وطارق بن زياد وأبو محمد الصغير، وكأنه يعتب على التاريخ العربي ومساره المغلوط، حين يوكد أن بلاد الأندلس ليس لنا نحن العرب، ولهذا كان من الطبيعي أن نتشرب سوءات هذا التاريح وهزائمه وانكساراته. دخل المسلمون أرضاً لم تكن لهم، وبنوا عليها حضارة من أجمل الحضارات الإنسانية وأرقاها وخسروها لأنها ـ في النهاية ـ لم تكن لهم.
وعلى مستوى البنية الداخلية، تتحرك الرواية بين مستويين زمنيين واضحين: مستوى تاريخي بعيد يمتد حتى القرون الوسطى، ومستوى عصري يلامس حياتنا اليوم في ظل وضع عربي لا شيء فيه يبشر بخير. وإذا كان سيد أحمد بن خليل (غاليليو) هو راوي النص التاريخي الأساسي في دوره القائم الأول بأمور البيت الأندلسي، فإن وريثه في الحاضر مراد باسطا هو من يروي لنا نهاية البيت في عصرنا ويكشف لنا الجريمة الموصوفة المرتكبة في حقه.
وتنحاز الرواية إلى فكرة التسامح الديني، ونبذ الحروب الدينية، لأنها تتناقض مع أساس الحياة القائم على التعدد والتوع العرقي والديني والمذهبي، وأن في الكون والحياة متسعاً لكل بني البشر. ويبدو هذا واضحا عندما يتحد (غاليليو/ خليل) بحبيبته سلطانة فهي تأتي إلى بيت زوجها لتحييه بحبها وبفرقتها الموسيقية النسائية: لاكاسا أندلوسيا. وعندما ندخل عالم غاليليو في عمله اليومي كصائغ ذهبي وفي علاقته مع ريّاس البحر حسن فنيزيانو وحسن كروغلي وإصراره على جعل حياة المنفى الغريب حياة مستساغة،. وفي هذا السياق، لا يفوّت واسيني علينا الفرصة للتعرف إلى «الرجل الأحمر» الذي اتخذه القراصنة الأتراك رهينة في الجزائر لنسمع قصصه مع البحرية الاسبانية والإيطالية في المعارك البحرية على العثمانيين والتي يحكيها بالتفاصيل لغاليلو.
والروية غاصَّة بلشخصيات، فهي متعددة وكثيرة وهذا هو حال الروايات التاريخية. ويتفاوت حضور الشخصيات ي الرواية فمن الشخصيات مَنْ عبر عن رؤاه ثم انطفأ: لأن وظيفته الفنية توقفت عند حد معين. الوحيد الذي استمر، من البداية حتى النهاية، هو مراد باسطا، لأنه هو الجسد الحقيقي للرواية. وهو المتحكم في المسار العام للرواية، وأزمنتها الماضية والحالية. ورغم القيمة الفنية لمارينا، فإنها لم تظهر كثيراً، في الرواية ذاتها، ولكنها ظلت عالقة به، لأنها انسحبت مبكراً، مخلفة، وراءها، حالة من المبهم. فحضور الشخصية ليس في المساحة التي تحتلها، روائياً، ولكن في الكثافة التي تميزت بها.
ماسيكا أو سيكا، هي المنظم الأساسي للعملية السردية، بل هي التي جمعت أشلاء النص الذي كان، في الأصل، مجموعة من الأسئلة المتطايرة، بحثاً عن إجابة ظلت غائبة. وهي التي أتت بالمخطوطة التي رممتها، معلوماتياً، من خلال رحلاتها. وماسيكا هي التي عرفتنا إلى قصة مراد باسطا، ومخطوطته.. ماسيكا أداة ولكنها، أيضاً، قضية تبحث عن هوية ضائعة لا تعرف منها إلا قصص أمها الممزقة وهي التي تدفن مراد باسطا وفاء للرجل الذي أحبها بصدق (باسطا، حتى في هزيمته، وإخفاقه في حماية البيت، ظل منتصراً: لأنه يعرف أن مرضه الجميل، مرض البيت الأندلسي، انتقل إلى ماسيكا، بألقها، وذكائها، وشبابها.)
وبطل الرواية، هو مراد باسطا، آخر ما تبقى من السلالة المنقرضة، يحاول جاهدا الحفاظ على مخطوطة جده الأول غاليليو، التي دون عليها فضائع ما جاءت به محاكم التفتيش، يساعده في ذلك حفيده سليم وماسيكا، الفتاة الموريسكية التي تعثر بها ذات صدفة، كما يسعى لإثبات حق ملكيته للبيت الأندلسي الذي بناه غاليلو الروخو قطعة قطعة كعربون محبة للالة سلطانة في منفاه في الجزائر، والذي كان متأكدا من أن سفينة القدر سترسو بها عند بابه وإن طال الزمن..
وحين يدخل القارىء في صلب اللعبة الروائية يمكنه منح الرواية بعض الامتدادات السردية يعطي امتدادات للسرد، كما يشاء. حتى تسمية باسطا، التي أتت من تسمية أطلقتها عليه صديقته الإسبانية، مانويلا، التي التقاها في الحرب الأهلية الإسبانية، التي شارك فيها، في صفوف الجمهوريين. وللقارىء ان يتوقف عند طبيعة هذه العلاقة وأسرارها وكيف انتهت. فثمة شيء من الغموض يتعلق ببعض الشخصيات التي تعمل داحل هذه الرواية. مع الإقرار بأن هذه الشخصيات من المكونات الدلالية المتوافقة مع المعمار البنائي للرواية،وأهميتها ليست في حضورها المكثف داخل مساحة السرد، وإنما بفعاليتها وبمدى تأثيرها على مجريات الأحداث،وعلى الأثر الذي تتركه في المتلقي،وقد جاءت في الرواية بطريقتين إما بطريقة مباشرة يتكفل بها الراوي ويقدمهما من الخارج فيشرح عواطفها وأفكارها،أو بطريقة غير مباشرة تقدم فيها الشخصيات نفسها بنفسها باستخدام ضمير المتكلم.
وقد استخدم واسيني الأعرج في هذه الرواية الإيهام بطريقة ذكية فنياً من خلال الشروحات والهوامش التي توحي للقارىء بل تجعله يغرق في تصديق المادة المعرفية التي فيها، مع أن كل ذلك من الخيال بهدف إدخال القارىء في اللعبة السردية.
د.رزان إبراهيم: ملخص قراءتتي لرواية واسيني الأعرج "البيت الأندلسي" في منتدى الرواد الكبار
د.رزان إبراهيم/ أستاذ نقد أدبي حديث/ جامعة البترا
في رواية "البيت الأندلسي" للروائي الجزائري واسيني الأعرج، تتخلق لغة خاصة تحيل إلى تاريخ المسلمين في الأندلس على نحو غير منقطع عن جوهر الواقع العربي، بما يحمله من انكسارات متتالية. والرواية تتحرك بين زمنين؛ ماض تحركه مخطوطة قديمة نادرة رسمت بكثير من الدقة تاريخ عائلة من الموريسكيين. وحاضر ممتلئ بأحداث الماضي.
تعود بنا الرواية إلى لحظات التهجير المروعة التي تعرض لها بطلها غاليليو، حين أجبر قهراً على ترك غرناطة التي لم يعرف سواها وطناً. وهو ما عملت الرواية على نقله بحرفية عالية، وبقيت محتفظة به مذكرة أن المشاعر التي يحتفظ بها المرء تجاه الأرض التي فارقها ليست بسيطة أبداً. والبيت الأندلسي عموماً مرتبط بحلم عاشه غاليليو سيدي أحمد بن خليل وزوجته سلطانة ألونسو في هضاب غرناطة، حيث كانت نهاية آخر ملوك بني الأحمر. نبت في القصبة في الجزائر مثلما اشتهياه نسخة من البيت الغرناطي، على طراز العمارة الموريسكية. بما يؤكد نزوع النفس إلى الحنين، حين تجبر على العيش في عالم لا يشبه وطنها الأصلي. يتعرض البيت لمحاولات مسخ وهدم يكون مراد باسطا الشخصية الرئيسية التي ورثت البيت والمخطوطة شاهداً عليها. يبقى البيت واقفاً إلى أن جاءت طبقة جديدة في الجزائر، اشترت المساحة التي يحتلها البيت لتشييد برج بمائة طابق، بدعوى أنه يحل جزءاً من مشكلات السكن العويصة، كما يتحول جزء منه إلى أسواق ومطاعم ومكاتب تغير من وجه المدينة.
الرواية تلقي الضوء على صراع عاشه حفيد غاليليو البطل الأندلسي، مع جماعة المصالح المسيطرة، الذين لم تتناولهم الرواية على أنهم مجرد أفراد أخطأوا، وإنما أبرزتهم نماذج إنسانية تعبر عن قوى تاريخية عالمية، تمثل نظماً دكتاتورية، تكون قوة الدولة فيها أسمى وأعلى، بوجود جهاز حكومي يؤكد على تدعيم مصالحها، ويضعها فوق مصالح الأفراد والجماعات. هذه القوة التي رسمت صورة خراب البيت الأندلسي لم تكن عدوة لتراث خاص بقوم معين، وإنما كانت عدوة للإنسانية جمعاء. من هنا جاء مشهد دمار البيت على نحو تفصيلي يساهم في خلق وعي نقدي يتشكل ضد هدم يجرد المدينة من ذاكرتها. فيكون القارئ في نهاية الأمر قبالة نشاط جمالي لافت يعري خطاب السلطة ويفضح خاصية زمن الديكتاتور من حيث هو زمن يتكرر ولا ينتهي. وبالتالي يصبح هدم البيت ممارسة قمعية لا تقل شناعة عن فعل التهجير الذي مورس بحق الموريسكيين.
تحمل الرواية رسالة هامة مفادها أننا كائنات منسوجة من خيوط من كافة الألوان، لذلك لم تكن الذات في البيت الأندلسي محددة المعالم أو مقولبة، فهي نسبية في تكوينها على المستوى الثقافي. لكن تبقى الروح الأندلسية للبيت حاضرة عبر تقنيات فنية عالية. نذكر منها حالة السرد التي تصدرت أوراق المخطوطة؛ بما يذكرنا بنمط قديم وجدناه في الكتابات العربية القديمة، وكذلك في العناوين الشارحة في رواية سيرفانتس الشهيرة. كما تحضر الموسيقى الأندلسية ليكون لها دورها في تفعيل هذه الروح الأندلسية. ونذكر في هذا السياق عناوين منتقاة من مقامات أندلسية متعددة: استخبار؛ توشية، نوبة، خليج الغرباء، وصلة الخيبة. كل في موقعه المناسب.
مع البيت الأندلسي ينخرط القارئ في جملة من الإيحاءات السيكولوجية والفكرية المدهشة، تمس حواسه كلها. وهو ما يمكن تلمسه عبر تفعيل متمكن لحوارية بصرية تنقلنا إلى مشهد معماري أندلسي تحضر فيه البنية المعمارية الموريسكية على نحو دقيق. وهي الحوارية التي عملت على تكريس حالة الحنين إلى زمن أندلسي قديم، وعززت القرابة السيكولوجية بين زمنين. وهو ما استعانت فيه بحاسة شمية عبقة برائحة المكان، يسترجع معها الروائي وصلات أندلسية ضائعة.
انطلاقاً من مذهب إنساني عام نجد الرواية وقد ناصبت العداء كل معتقد بخرافة النقاء البشري، بل وتنطلق من فكرة أن أي انتماء واحد سيحصر البشر بالضرورة في موقف متحيز متعصب، ويولد أشكالاً مختلفة من أشكال القمع الناجمة عن اختلاف في الجنس والهوية. ومن هنا يحضر ميمون البلنسي، صانع الذهب الذي عمل مع غاليليو في القصبة. رجلاً طيباً صافياً كقطرة ماء؛ فاليهودية مجرد انتماء ديني، وليست معياراً عنصرياً، وإن كان هذا أمراً لا تعترف به الصهيونية الآن التي عرفت عبر تاريخها بجعلها اليهودية معياراً على تفوق اليهودي على غيره من البشر.
تفتح الرواية الباب مشرعاً لأكثر من قضية إشكالية تحضر فيها الفكرة مع أخرى تجابهها؛ منها قضية الحروب. من الذي يصنعها؟ ما هي جدواها؟ قضية الوجود الإسلامي في الأندلس، هل كان احتلالاً لإسبانيا؟ وهو ما يتم عبر حوارات مونولوجية متسائلة نستمع إليها عن طريق غاليليو، لكنها تدفع باتجاه لغة حوارية تحرضك على التفكير، وتتظاهر بأنها لا تنحاز إلى رأي بعينه. كما تلتفت الرواية إلى أن ما يرتكب من أفعال شائنة باسم عقيدة ما لايتهم هذه العقيدة بالضرورة، وإلا كنا اتهمنا مسيحية عرف عنها التسامح بأنها لا تحترم الحريات، إذا قمنا بوضعها قي سياق محاكم التفتيش. ولذلك لا يمكن إحالة مشاهد عنف واستبداد وقع في الجزائر إلى طبيعة تمس الإسلام. هذا لا يلغي بطبيعة الحال حضوراً لشخصيات تلحق نفسها بالإسلام عبرت عن قوى الاستبداد والظلم وتحالفت معه، وفي نهاية الأمر ننظر إليها باعتبارها وليدة عصرنا واضطراباته وتشوهاته وخيباته، ولا يمكن إدراجها في خانة الإسلام.
يلاحظ قارئ هذه الرواية بناء تركيباً جمالياً يحقق انشغالاً بالتحفيز الواقعي، ومن هنا نقع على جملة من الحيل الروائية التي ينتهجها واسيني الأعرج لإقناع المتلقي بصدقيتها. في مقدمة هذه الحيل تأتي المخطوطة التي تشكل جزءاً أساسياً من مكونات البنية السردية. خصوصاً حين تعطينا الرواية تفاصيل عديدة عنها بما تحويه من ثقوب، ومما تطلبته من وسائل ترميم متعددة للحفاظ عليها، مع شرح لتشويه أو صفرة أصاباها لعوامل متعددة. كما تحضر فكرة الحواشي والتعليق عليها، بما يكون له أثره في إثراء القارئ بكم من المعلومات التاريخية دون أن يحس القارئ بإقحام مفتعل للروائي.
والرواية كسائر أعمال واسيني الأعرج تمتلك حساسية خاصة تجاه المرأة. ليس باعتبارها رمزاً وإنما باعتبارها كائناً حياً شكل مصدراً من مصادر القوة والعزاء للرجل. كما حرصت على نقل تجربة الحب بسخاء عبر أكثر من شخصية، بما في ذلك شخصية سيرفانتيس الذي لم تعد أرض حُبس فيها غريبة بفعل حب يمنح السكينة ووهم الأرض المفقودة، فكانت زريدة متنفسه عن إحباط أصابه، وإن كان في نهاية الأمر قد اختار تعقلاً باتجاه أرض له فيها أناس آخرون.
لا ننسى هنا تقاطعاً بين جد مراد باسطا (غاليليو) بطل البيت الأندلسي، وبين (رمضان) جد واسيني الأعرج الذي انغلقت عليه السبل في غرناطة القرن السادس عشر وولى وجهه شطر مدينة المارية بعد الترحيل الضخم الذي قام به فيليب الثاني بعد انتفاضة جبال البشرات. كما يحضر في الرواية سؤال الرحيل المستمر والغياب الدائم، والمنفى القاسي الذي عاشه مراد وسط ناس لا يشبهونه من القتلة القدامى والجدد. يحضرالمنفى خياراً تفرضه تراجيديا الحياة. وهو ما حصل مع سليم حفيد مراد حين أحس بتمزق مع تراب الوطن، فاختار الرحيل بعيداً عنه. وهو أي (المنفى) ما كان له دوره في توليد حساسية مشتركة تجمع غاليليو وسيرفانتس، اللذين اجتمعا على أرض واحدة مع مطرودين من الأندلس. وكان غاليليو قناع سيرفانتيس الذي حمّله وزر رواية تسخر من كل شيء.
على الرغم من الأسئلة الكثيرة التي تستحضرها الرواية عبر مونولوجات متناثرة هنا وهناك، فإنها لا تعدم ميلاً واضحا إلى تحديد القيم الإيجابية والسلبية لدى جملة من التصورات؛ فالروائي حريص على طرح قيمه وتصوراته للعالم من أجل ممارسة تأثيره على العالم. وبما يحقق للرواية طابعاً براغماتياً يدعو للمارسة والفعل. وبالتالي لم يكن قص بمستويات مختلفة أبطاله من سلالة غاليليو قادراً على كسر سلطة الكاتب؛ فهناك رغبة لدى المؤلف في أن لا يضل القارئ طريقه عن الاتجاه العام الذي يميل إليه. وبقي الرواة متمسكين بفكرة غاليليو وبانحياز إلى فكرة عبر عنها بالقول: " البيت من لحمي ودمي ابقوا فيه ولا تغادروه حتى ولو أصبحتم فيه خداماً أو عبيداً".
عبر شخصياته يحضر الروائي ناقداً ثقافياً، في حربه على نظام تحكمه مافيا العقار. يكشف الأسلوب الذي تستخدمه المؤسسات في الهيمنة على الجمهور. ويفضح خطاب السلطة الذي يصنع الأقنعة ويصوغ خطابات مقنعة هدفها قلب الموقع بين القاتل والضحية. وهو خطاب دأب على التلاعب بالإشارات لغرض تكوين ثقافة جماهيرية منقادة تخدم السلطة بعجزها عن التمييز بين فعل الإنتاج والتدمير، وهو ما لم ينطل على مراد وحفيده، اللذين كانا قادرين على التمييز وتحديد من استفاد من دم الشهداء مطالبين أصحاب السلطة بأن يتركوا الشهداء ليناموا قليلاً.
يبقى أن الرواية بشخوصها المتعددة تمتلك إحساساً كبيراً بعمق إنساني، بلغ ذروته في نهاية السرد حين خسر مراد معركته ومات في نهاية الأمر. ليبقى على مستوى الفاعلية الأدبية منتصراً حين ترك مأساته في نفوس قراء تواطأوا معه بطلاً متحصناً بحلمه، مؤمناً كل الإيمان بموقفه.