زيارة "وفد أردني" إلى دمشق، وإهداؤه العباءة للأسد (باسم شعبنا)؛ فيهما استهتار غير مقبول ومحزن ومؤسف بمشاعر السوريين ومشاعر الأغلبية العظمى من الأردنيين؛ ويمكن هنا استدراج أساليب الاستنكار والإدانة كافة.
لا نستبدل "بضاعة رخيصة" من ادعاءات قومية وأيديولوجية ووهمية بدماء وتضحيات ومآسي أشقائنا وإخواننا السوريين، الذين هجّر منهم إلى اليوم مئات الآلاف، وقتل مثلهم، وما يزال عشرات الآلاف معتقلين، ثم نرى هذا الوفد أمام العالم كلّه يبارك باسمنا نحن هذه الأفعال الشنيعة؛ يا للخجل!
لو سألنا الوفد الذي ذهب إلى هناك عن ماذا يدافع الأسد اليوم، وضد (من)؟! عن وحدة سورية، مثلاً؟ وهل يمكن أن نتصوّر الرجل يحكم بعد هذه الشلالات من الدماء، وبعد هذه الروح الطائفية المرعبة التي ردّ البلاد إليها؟!
أي وحدةٍ وهمية هذه! إذا كان طيّارون عسكريون منشقون يؤكّدون أنّ الطيّارين السنّة ممنوعون من الطيران، خوفاً من فرارهم أو انقلابهم بأسلحتهم ضد الرئيس السوري؛ وإذا كانت أهم المدن السورية والمحافظات والقرى تحوّلت إلى ركام وجثث وأشلاء وذكريات مريرة! الوحدة الحقيقية الوحيدة الشرعية تتمثّل في دولة المواطنة والقانون والمساواة وحقوق الإنسان والحريات العامة، أيّ الدولة التي يشعر فيها الجميع بأنّهم أسياد أنفسهم لا عبيد، أو مجرد حشرات أو جراثيم، يمكن إبادتها بقرار من مسؤول بالدرجة العاشرة!
ربما التصريحات الأخيرة التي صدرت عن جهاد المقدسي (المتحدث المتحمس سابقاً باسم وزارة الخارجية السورية، والذي هرب من البلاد) تؤكّد أنّ المصدر الوحيد لدعم النظام اليوم لدى الأغلبية العظمى يتمثّل في خشية كثير من السياسيين والدبلوماسيين على عائلاتهم وأقاربهم، في حال أعلنوا انفصالهم عن النظام وانحيازهم للشعب، فعن أيّ انتصار حقّقه الأسد يتحدث الوفد "الأردني" (للأسف!)؟ بالتأكيد لدى كثير منا شكوك في أهلية المعارضة السورية، وهواجس من الأجندات الدولية والإقليمية المشبوهة، سواء مع النظام أم المعارضة؛ وثمة قلق كبير لدى الأقليات المختلفة على السلم الاجتماعي والأهلي، بعد التجربة العراقية المريرة. كما لدينا أسئلة مرعبة ومقلقة تماماً تتعلّق بمستقبل سورية في ظل هذه اليوميات الدموية الكارثية. لكن هذه الأمراض والنتائج نابعة من سياسات النظام وتبنيه الحل الدموي مع مطالب الناس بالحقوق المشروعة، منذ البداية.
من الضروري ألا نخلط الأوراق بشأن ما يحدث في سورية اليوم، ولا بد من التمييز ما بين القضايا الخلافية من التحليلات والقراءات السياسية المختلفة في الموقف من المعارضة الخارجية ومن صعود "القاعدة" والفصائل المسلّحة هناك والهواجس المشروعة حول المستقبل من جهة، وبين القضايا الجوهرية التي لا مقايضة عليها أو مناورة فيها، من جهة أخرى، وتتمثّل في عدم قبول أي مسوّغات أو حجج أو ذرائع مهما كانت قومية أو دينية أو أيديولوجية لقتل الناس وتعذيبهم واستخدام السلاح ضد المدنيين والأبرياء، وحجب حق الناس في الحرية والكرامة والحياة الإنسانية الطبيعية.
ليس موضوع النقاش اليوم فيما إذا كان النظام السوري ممانعاً أم متواطئاً! وفيما إذا كانت هنالك مؤامرة أم لا! أو إن كانت "القاعدة" بهذا الحجم الإعلامي أم لا!
فكل تلك قضايا ثانوية، لا قيمة لها أمام قضيتنا المركزية التي أشعلت الثورات الشعبية العربية عموماً، والسورية قبل أن يستدرجها النظام إلى العسكرة الاضطرارية، بعد أن تخلّى العالم عن الشعب السوري؛ إنّما قضيتنا اليوم وغداً وبعد غدٍ تتمثل في الديمقراطية التي تعني التحرر والحرية، والتخلص من زمن الأوثان والعبودية. هذه المذابح والفوضى والدماء والأشلاء، هي مسؤولية النظام والسياسات القمعية والروح الدكتاتورية. فالمشهد الكارثي هو صنيعة النظام والنفاق الدولي؛ فلا الدكتاتورية ولا الفكر الديني المتطرف ولا الروح الطائفية تعكس ثقافة الشعب السوري وروحه المبدعة، ولا تمثّل أهدافه التي انتفض لأجلها، هذه خياراتهم لا خياراتنا!
m.aburumman@alghad.jo
الغد