مُجْرِمون وقَتَلَة على هيئة «تُجَّار» !
جواد البشيتي
13-02-2013 03:30 AM
الطعام الفاسد والمغشوش، والذي إنْ لم يُمِتْ متناوله يُصِبْه بالمرض، ينتشر الآن في مطاعمنا، وأسواقنا، ومستودعاتنا الغذائية، ومدارسنا؛ أمَّا الحملات الحكومية لمكافحة هذا النوع من الفساد والغش، والذي هو أسوأ وأبشع أنواع الجرائم، ولا يرتكبه، ويستسهل ارتكابه، إلاَّ المتحوِّلون (من مواطنينا) إلى وحوش بشرية، فلا تفيد إلاَّ من له مصلحة في ذَرِّ الرَّماد في العيون، أيْ في عيون المواطنين (المستهلكين، الضحايا) التي ترى وتُبْصِر؛ لكن ما نَفْع الرؤية والإبصار إذا ما كانت الأيدي ضعيفة ومشلولة؟!
إنَّهم صِنْف من التُّجار، ابتلانا بهم "إله السوق الحُرَّة (والتي ما عادت تعرف من الحرية إلاَّ ما نعرفه من الحرية السياسية)"؛ وهُمْ، بما يرتكبون من جرائم في حقِّ الجنس البشري، يَصْلحون دليلاً مُفْحِماً على صِدْق نبوءة ماركس إذْ قال إنَّ الرأسمالية إمَّا أنْ تُسْلِم الرُّوح، وإمَّا أنْ تُعيد البشرية إلى عهود الهمجية، وتَهْبِط بالبشر إلى الدَّرك الأسفل من الوحشية.
لقد أصبحت أثراً بعد عين كل تلك "الأسباب الموضوعية" لجودة المُنْتَج، ولانعدام، أو ضآلة، الحاجة إلى "الغُشِّ"؛ ومع انتشار وسيادة "الاحتكار" تهيَّأ لـ "الغُشِّ السِّلعي" أساسه (الاقتصادي) الموضوعي، حتى غدا "الغُشُّ" مَصْدَراً لـ "الرِّبح"، عند "رَبِّ العَمَل (المُنْتِج للسلعة)"، وعند "التاجر (المُتولِّي تصريفها)".
بـ "الغُشِّ" في المواد والعناصر (نوعيةً، وكميَّةً، ونِسْبَةً) الدَّاخِلة في تكوين السِّلعة تُخَفَّض تكاليف إنتاجها؛ ومن طريق هذا "التخفيض بالغُشِّ" ينمو "الرِّبح"، حجماً ومعدَّلاً؛ وإنَّ مزيداً من هذا النوع من الخَفْض في تكاليف إنتاج السلعة يُنْتِج مزيداً من الهبوط في جودتها، وقيمتها الاستعمالية؛ فـ "الاحتكار" يُضْعِف الحاجة لدى "المُنْتِج (أيْ رَبُّ العمل الصناعي)" إلى زيادة ربحه (حجماً ومعدَّلاً) من طريق الخَفْض السَّوي لـ "القيمة التبادلية" لسلعته؛ وهذا الخَفْض لا يتأتى إلاَّ من طريق رَفْع "التركيب العضوي" لرأسماله، أيْ من طريق إنفاق مزيدٍ من "الرأسمال الثابت"، للحصول على آلات ومعدِّات وتجهيزات أفضل وأحدث وأرقى.
و"الغُشُّ" في تكوين السِّلعة يؤدِّي، عادةً، إلى ما يؤدِّي إليه خَفْض قيمتها التبادلية من طريق تحسين "البنية الآلية" للمشروع، ألا وهو خَفْض سعر بيعها؛ وهذا الخَفْض يَجْعَل "المُنْتِج (أو التاجر)" يبيع أكثر، فيحصل على ربح أكثر؛ لكن مع فارِق جوهري هو "التضحية بجودتها (وقيمتها الاستعمالية)". وفي هذا يكمن معنى المَثَل القائل "إنِّي لستُ غنيَّاً حتى أشتري سِلَعاً رخيصة"!
و"السلعة المغشوشة" تحتاج إلى تسويقها من طريق "الإعلان (التجاري) المغشوش"؛ فـ "الإعلان" الخاص بسلعة ما يُخْبِركَ بخواص للسلعة لا وجود لها في السلعة نفسها، أو مُضَخَّم وجودها كثيراً؛ وحتى الآن ليس لدينا من المؤسَّسات والهيئات الرقابية ما يكفي لإرغام "المُعْلِن" على أنْ يكون صادقاً، موضوعياً، في عرضه وشرحه لخواص وفوائد السِّلعة في "إعلانه"؛ فَكَم من أصْلَعٍ، مثلاً، اشترى مٌنْتَجاً، أخبره "الإعلان التجاري" الخاص به أنَّ في هذا المُنْتَج من الخواص ما يجعله حلاَّ نهائياً لمشكلة تَصلُّعه، فإذا به يزداد تَصلُّعاً باستعماله له؟!
ولقد أصبح "الغُشُّ" في كثيرٍ من السِّلَع مَصْدَراً لجرائم تُرْتَكَب في حق المُسْتَهْلِك؛ فهو إنْ لم يُقْتَل باستهلاكه لها فقد يُصاب بكثيرٍ من الأمراض، التي بعضها يمكن أنْ يُسرِّع في موته؛ وهذا ما نراه، على وجه الخصوص، في "الغشِّ الغذائي"؛ فالغذاء الفاسِد المغشوش هو الآن غذاؤنا، أو الجزء النامي المتنامي منه، والذي يَذْهب بنا استهلاكه إمَّا إلى المقابر وإمَّا إلى المستشفيات، التي بعضها الآن يُعَدُّ أقصر الطرق إلى المقابر، وكأنَّ عزرائيل وَجَدَ فيه (أي في بعض المستشفيات) خير عون له في سعيه إلى قبض مزيد من الأرواح.
لا حلَّ من طريق "هيئات الرَّقابة والمكافحة الحكومية"؛ فإنَّ ثلاثية "الرَّاشي والرائش والمرتشي" هي التي لها سطوة عليها، شخوصاً وعملاً؛ وهي للخداع والتضليل وذَرِّ الرَّماد في العيون طريقاً وسبيلاً.
لا حلَّ إلاَّ بـ "الرَّقابة الشعبية (العلمية، القوية، والواسعة)"؛ فإنَّ الشباب من أبناء المجتمع ينبغي لهم أنْ يؤسِّسوا لهذه الرَّقابةً لجاناً ومنظَّمات كثيرة، متكاثرة، تَضُمُّ أُناساً من ذوي الخبرة في كشف واكتشاف الفساد والغش في الغذاء، وأنْ يُحصِّنوا أنفسهم وعملهم وسعيهم بـ "رخصة برلمانية (لا حكومية)"، وأنْ ينشروا (إعلامياً) في صِدْق وشفافية وجرأة كل ما يتوصَّلون إليه من نتائج، لا تُسْتَثْنى منها "الأسماء"، أسماء المتورِّطين في تجارة الغذاء الفاسد؛ ولا حلَّ إلاَّ بممارَسة مزيد من الضغوط على السلطات الثلاث، توصُّلاً إلى تغليظ العقوبة؛ فالعقوبة التي لا تَرْدَع، أيْ التي لا تُغَلَّظ بما يجعلها رادعة، إنَّما هي عقوبة تضرُّ ولا تَنْفَع.
jawad.albashite@alarabalyawm.net
العرب اليوم