حكاوي بنت/ عندما يلتقي "يزن" بوطنه
08-12-2007 02:00 AM
بينما كان يتنقل "يزن" بين يدي والديه لحظة ولادته, كنت أطيل النظر في عيينيه ورغبة كبيرة تشدني لأن أدندن أغنية لمارسيل خليفة أو جوليا بطرس فقد كان من الصعب أن أرى عينيه بمعزل عن القضية والفن, ورغم أنه ليس ابني فليس هنالك ما يؤهلني لأن أفكر به الى جانب مستقبله إلا أن الأبوة التي مارسها والده "شقيقي محمد" علي وأنا طفلة تنير لي الدرب في ذلك..فعندما بدأ العمر يسمح ليزن أن يبادلنا الحديث والضحك كنت قد بدأت أحكي له عن اليهود وفلسطين, وعندئذ ودون اتفاق كان والده قد بدأ بذلك كما بدأ قبل ذلك بسنوات طويلة برواية حكاية وطننا لي ولأشقائي الصغار, فذلك الدم الذي يسري في عروقنا يلح علينا دائماً باسم الوطن وبتفاصيله رغم الشتات. الشتات؛ كلمة نرددها كثيراً لكن معناها والاحساس به يتفلت منا كلما غرقنا في هم لملمة أنفسنا من دول عدة لنجتمع في فرح أو ترح أو في غمرة شوق, لكنني مع ذلك أذكر أنني لمست معناها بل أحاطت به يدي لساعات في مرتين ثم غادرني وأظنه مازال يختبىء هنا أو هناك يراقبني ويتابع شؤوني بصمت, فعدم رؤيتنا له لا يلغي وجوده.
لقد كانت المرة الاولى عندما وخزتني الخيبة واشتقت أن أضم ساعتها قبر جدي الكائن غرب النهر, والثانية عندما لمعت الخيالات التي تجول في ذهن "يزن" على هيئة بريقٍ في عينيه متساءلاً عما يعنيه والده عندما أخبره أننا من فلسطين, ولقد عجزت محاولاتنا عن اغراق ذلك البريق بنور الواقع حتى يزول التساؤل فأنى لنا بالخليل لنأت له بها والقدس ورام الله؟.
يزن, فلسطيني جديد يدخل في تعداد شعب محكوم بالاشتياق, هو ذاكرة جديدة تمتد الحكايات التي تسكنها على هيئة حبل سري بينها وبين وطن لم تنظره عيناه ولو لمرة, لكنها ترتوي من ذكرياتنا وأشواقنا ليتمكن أخيراً من بناء وطن يليق بقامة خياله..
مواطن جديد مع وقف التنفيذ يا فلسطين.. مواطن يرتوي بالحديث عنك ولم يتنسم هواءك.. مواطن يدندن طويلاً "اني اخترتك يا وطني" ولو وضعته الاقدار في قلب وطنه يتوه فيه وعنه.. مواطن يحسن أداء الدبكة كما يؤديها أشقاءه غرب النهر دون أن يشبك يده بأيديهم.. مواطن أنت أنجبته وتكفلت الضفة الشرقية بتربيته ورعايته حتى يُفكَ أسرك.
مواطن قد يتمكن في المستقبل من المرور اليك لزيارتك في سجنك الكبير وتفاصيل أيامه التي نمت في شرق النهر تناديه بين الفينة والفينة, وقد يصغي عبر المسافات لأصوات أطفال ينادونه للعب الكرة في الحي الذي تلقف ضحكاته ومرحه لسنوات, سيسعد عندما يجد والديه يستعدان لزيارة الحرم الابراهيمي لكنه لن يجد لاستغراب والدته أي مبرر عندما يحكي لها أنه اشتاق لرفاقه الذين يستأنفون في هذه الساعة لعبهم شرق النهر, سيشعر برائحة السنوات الزكية وهي تتخلل نبض قلبه وترفعه الى مراتب العشاق وهو يشق طريقه عبر البلدة القديمة باتجاه الحرم الابراهيمي, ومع ذلك لن يبرر عدم اكتراث من حوله برأيه عندما يشبّه "شارع الشلالة" في الخليل بأحد شوارع وسط البلد في عمّان.
بدأت ملامح جيل كامل بالوضوح.. جيل تائه بين صخب رفاقه في البلد الذي رعاه ريثما يعود لوطنه وبين صخب ذكريات ذويه, جيل ملامح التيه بدأت تلوح على دفاتر أيامه.. تيه يغرقنا في صحراء شاسعة تتوسط مكاناً يسكننا ومكاناً نسكن فيه.. جرح لا يعرف أحد مقدار ألمه الا عندما يتعثر بذكريات جمعته في بلد قد ضمّه أثناء سعيه لحضن وطنه الذي ينتسب اليه.. جيل لا يليق به الا وصف واحد وكلمة غائبة عن وعينا وحاضرة في ذات الوقت وهي "الشتات".
hakaweebent@yahoo.com