أخطاء يحيموفيتش * بقلم: شلومو أفنيري
هاآرتس - (المضمون: يجب ان يُتم حزب العمل بمشاركة مؤسساته المختلفة نقاشا عاما يتبين شروط دخول ائتلاف حكومي يستطيع ان يؤثر في السياسة الاسرائيلية ويلبي مطالب الجمهور الاسرائيلي).
إن اجراءات رئيسة حزب العمل شيلي يحيموفيتش الاخيرة تنذر بجعل حزب العمل غير ذي صلة بالواقع السياسي الذي تغير تغيرا جذريا في الانتخابات الاخيرة. والحديث عن حزب حصل على أكثر من 432 ألف صوت في الانتخابات، لكن صوته لا يُسمع اليوم.
في الانتخابات الاخيرة خسر الليكود بيتنا ربع قوته، وضعفت مكانة بنيامين نتنياهو ضعفا حادا – وهذه حقيقة أساسية لا تستطيع كل عروضه المغرورة في وسائل الاعلام الطمس عليها. إن رئيس الوزراء في الاسابيع الاخيرة في ورطة غير سهلة بين جنون العظمة الغوغائي عند يئير لبيد وبين أصولية نفتالي بينيت المنافقة.
إن حركة تسيبي لفني التي فشلت فشلا ذريعا في الانتخابات، وكديما شاؤول موفاز المحطم الذي نجح في انقاذ نفسه بصعوبة من مقصلة نسبة الحسم، يظهران مرشحين جديين للجلوس في الحكومة، وكل واحد يريد ان يعلم أين تقف شاس، لكن حزب العمل "برئاسة شيلي يحيموفيتش" وقف ساكنا ولا يُسمع في الحوار العام الذي يجري الآن.
لا يمكن ان نسلب يحيموفيتش انجازاتها المدهشة منذ ان تم انتخابها لرئاسة حزب العمل: فقد نفخت فيه روح الحياة، ونجحت في ان تُجند لصفوفه شبابا كثيرين وعرضت وجوها طازجة في قائمة المرشحين للكنيست. وأدركت يحيموفيتش ايضا انه يجب ان يُعاد الى الحزب حياته الاشتراكية الديمقراطية الوردية وان يوضع على الخريطة السياسية لا باعتباره حزب حمائم معتدلا في القضايا السياسية فحسب بل باعتباره ايضا حزبا يلتزم بمباديء العدالة الاجتماعية والسياسة الاقتصادية التكافلية. ولا يمكن ولا يجوز سلبها ذلك.
لكن يحيموفيتش مع ذلك قد بالغت حينما كانت تحاول وبحق ان تسقط عن حزب العمل صورة حزب مهادن فيما يتصل بالفلسطينيين، علقت به صورة حزب تابع لليكود. وحينما عظّم بعض وسائل الاعلام التي ليست هي محايدة في هذا الشأن، هذا الجانب من موقفها، وقعت يحيموفيتش تحت ضغط وأعلنت قُبيل الانتخابات أنها لن تجلس في حكومة برئاسة نتنياهو وان لها هدفا واحدا فقط هو ان تحل في رئاسة الوزراء محله.
إن هذا التصريح قد بت مصير حزب العمل لأنه أصبح واضحا اليوم ان عددا كبيرا من المصوتين الذين خططوا للتصويت له غيروا آراءهم وحولوا اصواتهم إما الى يوجد مستقبل وإما الى ميرتس.
يصعب ان نفهم ما الذي خطر بالضبط ببال يحيموفيتش حينما صرحت هذا التصريح البائس. هل اعتقدت بجدية أنها قادرة على ان تتولى رئاسة الوزراء دونما تجربة أدائية سابقة وأن جمهور الناخبين سيفوض اليها ذلك؟ وهل أخذت في حسابها حقيقة أن نتنياهو قد يضعف ضعفا كبيرا في الانتخابات وان الانضمام الى نتنياهو الضعيف لا يشبه الانضمام الى نتنياهو ملك اسرائيل؟ أولم تدرك أنها بتصريحها الجازم تزيد في قوة يوجد مستقبل؟ وأنها تعوق حزبها وتحكم عليه بالمعارضة حتى قبل الانتخابات؟ لقد تم التعبير هنا عن عدم خبرتها السياسية كله.
هناك مكان اليوم لوزن هذا الموقف مرة اخرى. وهذا الامر ممكن اذا جُمعت في أسرع وقت مؤسسات الحزب – لا الكتلة الحزبية في الكنيست فقط (التي يكثر فيها ايضا من لا تجربة لهم ولبعضهم في المقابل أفواه كبيرة هي نتاج ماضيهم الصحفي)، بل وفي الأساس مؤتمر الحزب المنتخب. ويجب على المؤسسات ان تتباحث في الخيارات التي نجمت وهي ليست سهلة لكن لا يمكن الهرب منها.
من الواضح ان الحكومة القادمة ستضطر الى تقليص الميزانية: فمن يهتم بألا تكون التقليصات على حساب الطبقات الضعيفة – أممثلو العشرية العليا الذين صوتوا ليوجد مستقبل مثل يعقوب بيري أم ممثلو مستوطني بينيت؟ بل إن الواقع الجديد جعل نتنياهو يعيد موضوع مفاوضة الفلسطينيين الى موقع بارز في برنامج العمل: فمن يضمن في الحكومة القادمة ألا تكون هذه كلمات فارغة – هل هم مؤيدو ضم المناطق في البيت اليهودي؟ ومن يعارض موشيه فايغلين ورفاقه في الليكود؟.
ونضيف ايضا وهنا يجب على فريق من الجمهور العلماني ان يتسامى فوق مشاعر نفوره من شاس: نضيف انه في كل ما يتعلق بالتفاوض السياسي، فان شاس قادرة على ان تكون شريكة في موقف معتدل من الشأن الفلسطيني. ولها ايضا على نحو تناقضي قاسم مشترك جزئي على الأقل مع حزب العمل في الشأن الاجتماعي. لأنه مع كل مواقف شاس المعيبة من شأن تجنيد طلاب المعاهد الدينية، لا يمكن ان نتجاهل ان أكثر ناخبي الحزب ينتمون الى الطبقات الاجتماعية الاقتصادية الضعيفة، وينبغي ألا ننفي امكانية وجود صيغة مصالحة ما في قضية التجنيد. وينبغي ايضا ان نقرر أمن المناسب ان تُجعل محاولة فرض ما يسمى "المساواة في العبء" في مقدمة أولويات الحكومة القادمة – أم تُجعل العدالة الاجتماعية أو التفاوض السياسي في المقدمة.
والى ذلك، اذا كان حزب العمل يرى نفسه مرشحا لشراكة ائتلافية وعرض على نتنياهو مطالب جازمة فان مجرد هذه الحقيقة قد يكون تحديا ايضا ليوجد مستقبل يجعله يعلو فوق مواقفه الغامضة من القضية السياسية ويقول كلاما واضحا. وينبغي ان نذكر ان لبيد بدأ حملته الانتخابية بغمزة مُحكمة الى اليمين – في خطبة اريئيل – وهذه حقيقة يفضل كثير من مصوتيه "الشماليين" كما يبدو ان ينسوها بسبب غوغائيته المعادية للحريديين. إن حضور حزب العمل التفاوض الائتلافي قد يفصم ايضا الصلة الهاذية بين لبيد وبينيت التي هي كلها إيهام والتي تعرض موضوع المساواة في العبء على أنه علة العلل وكأنه لا توجد لدولة اسرائيل مشكلات اخرى.
أفضى انتقاد يحيموفيتش الصادق بالطبع الى استلال سلاح يوم الدين الحصري المستعمل في حزب العمل وهو استبدال الرئيس؛ وقد أُشهرت السكاكين الاولى. وهذا خطأ شديد. فيحيموفيتش مع رؤياها الاجتماعية الواضحة، هي كنز لحزب العمل. وقد نجح الحزب بفضل اعادة المجد الاشتراكي الديمقراطي القديم في انعاش نفسه. لا يجب استبدال الرئيس بل القرص، باعادة حزب العمل الى الميدان السياسي ذي الصلة وهو التفاوض في انشاء الحكومة.
لا يمكن فعل ذلك بصورة مُفردة. بل يجب ان يتم في مؤسسات الحزب نقاش ديمقراطي (اجل يا يحيموفيتش يوجد شيء كهذا)، والفحص عن الواقع المتغير بصراحة وعدم الاكتفاء بتصريحات اعلامية.
وفي النهاية، وبخلاف حزبي لفني ولبيد اللذين ليس يوجد وراءهما حزبان مُشكلان تنظيميا أو عقائديا، بل توجد مجموعتان من المصفقين جُمعوا ممن هب ودب – فان حزب العمل يمثل قوة تاريخية عظيمة الأهمية وعليه ان يكون مصغيا لارادة السيد، أي الشعب، وأن يتخذ قرارات حاسمة مسؤولة واعية.
أرسل جمهور الناخبين في هذه الانتخابات في الحقيقة رسالة ليست كلها واضحة، لكن شيئا واحدا واضحا يُفهم منها ضمنا وهو ان الشعب لم يتوج نتنياهو ملكا لاسرائيل لولاية اخرى. ينبغي مساعدة الشعب على تحقيق ارادته، والنقاش الجدي في امكانية المشاركة في الحكومة فقط – التي ستكون برئاسة نتنياهو لكنه لن يكون الحاكم المطلق فيها – سيحقق ما أراد الناخبون التعبير عنه في الثاني والعشرين من كانون الثاني.
التخلي عن الارض لن يوقف المشروع الذري * د. غابي أفيتال
اسرائيل اليوم - (المضمون: إن اعطاء الفلسطينيين دولة كما يرجو الغرب واليسار في اسرائيل لن يكون حلا لمشكلات الشرق الاوسط كما أثبتت التجارب الكثيرة السابقة).
إن الخطأ التالي لدول الغرب التي تقودها الولايات المتحدة – لا خطأ براك اوباما فقط – يقف على باب الشرق الاوسط ويقف أعمق الى الشرق في ايران. يحل الخطأ بالطبع، بيد ان كل خطأ غربي في الشأن العربي يستتبع جولة حرب اخرى. وتاريخ الشرق الاوسط مليء بالأمثلة. إن اتفاق اوسلو ونتائجه من أشد الأخطاء في محاولات احراز سلام بمفاهيم غربية في ميدان عربي.
إن المحاولة التي يتم الحديث عنها في هذه الايام هي عقد صلة بين القضية الايرانية والقضية الفلسطينية.
إن تصور الغرب الذي أصبح مركوزا بين النخب في اسرائيل ايضا هو انه يمكن ارضاء العرب بالارض مقابل اتفاق. وبالترجمة الى لغة المواطنين، يعني هذا التوجه المستكبر أنكم، أي العرب، مُنحطون تحبون الاراضي بالقياس إلينا نحن المستنيرين ومُحبي السلام. فتعالوا نتبادل اذا. واذا كان الامر كذلك فلن يكون سلام لأن مشاعر التعالي هذه تفضي بالجانب العربي الى الشهوة المأمولة للحصول على الارض والاستمرار في القتال ايضا.
إن اسرائيل منذ 45 سنة تقريبا تحفر لنفسها بئرا مفخخة. وقد راضونا على اعتقاد أننا اذا خرجنا فقط من المناطق المحتلة، فستُشفى أمراض الدولة. واذا جلسنا وتحادثنا مع الارهاب فقط ستختفي المشكلات بلا عودة، وتشرق رؤيا غصن الزيتون مع الحمامة على اليهود في حدود الخط الاخضر. ويعلن رئيس ايران للولايات المتحدة وللعالم كله على نحو متحدٍ بقوله: "بذلتم الكثير جدا من الجهود في محاولة لمنعنا من الحصول على السلاح الذري لكنكم فشلتم". فهل ارض "فلسطين المحتلة" خاصة هي التي ستمنع المشروع الذري؟.
إن من كان يبحث عن "منطق غربي" – فهنيئا له نشوته. لكن من أراد ان يفهم أسس الفشل الغربي فليتذكر اضطرابات باريس قبل سبع سنوات. ففي 1983 عقدت المؤسسة الاوروبية مؤتمرا في مدينة هامبرغ كان هدفه معرفة واجلال أهمية الاسهام الحاسم للاسلام في خلق الحضارة الاوروبية. وتقرر هناك التشجيع على دراسة اللغة العربية وثقافتها الاسلامية مع التحرر من عبء المزاوجة اليهودية المسيحية التي شكلت حضارة اوروبا حتى العصر الأخير.
ومر أقل من نصف يوبيل وأصبحت مشاهد الحرب تُرى على الشاشات في العالم كله شبه العولمي والذي يدعي الامساك بالعالم من أجنحته الاربعة في نفس الوقت. إن السيارات المحروقة في شوارع اوروبا المبلبلة ليست سوى ورقة اختبار لمسار أوسع وأعمق، ولو أنه وجدت وسيلة هجومية أقرب تناولا لاستعملوها بيقين.
ينبع الاتهام الاوروبي من بين ما ينبع منه، من عوامل أساسية مال مفكرو اوروبا المتقدمون الى تجاهلها على عمد. فقد زعم اولئك المفكرون والمثقفون الاوروبيون ان اسرائيل هي خطأ سياسي واخلاقي وأنها عبء اخلاقي على كاهل اوروبا، وأنه يمكن ان يُستبدل بالثمن الاخلاقي لمحرقة اليهود محو الثقافة والهوية والارض ايضا.
قال برنارد شو البريطاني قبل 75 سنة: "اذا كان يوجد دين سيحكم بريطانيا بعد 100 سنة، أي اوروبا، فهو الاسلام". وإن النتيجة المبكرة في نصف يوبيل تحرق كل احتمال لسلام حقيقي بين الشعوب. إن الدولة الفلسطينية اذا نشأت ستكون تحت مظلة ذرية ايرانية ولينتبه الى هذا اوباما ومشجعوه من اليسار.
ليقترح اوباما تسوية جزئية * بقلم: يوسي بيلين
اسرائيل اليوم - (المضمون: يجب ان يعمل الرئيس الامريكي في زيارته القريبة على الدفع قدما ببدء التفاوض السياسي بين اسرائيل والفلسطينيين فورا للتوصل الى اتفاق جزئي يسبق التسوية النهائية وان يعمل على اشراك الدول العربية في ذلك).
إن خطأ صغيرا للرئيس اوباما قبل اربع سنوات رفع أبو مازن فوق شجرة عالية ومكّن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن يزعم انه مستعد لبدء تفاوض بلا شروط مسبقة في حين ان الرئيس الفلسطيني هو الذي يتهرب من المحادثات. وبدل ان يقرر الرئيس الامريكي ان المستوطنات تعارض سياسة الولايات المتحدة وانه من المناسب وقف البناء فيها زمن التفاوض، طلب وقف البناء شرطا لبدء التفاوض ولم ينجح ذلك. وبعد ذلك، حينما رجع عن ذلك كان الامر متأخرا جدا.
إن التوقع الضئيل من زيارة اوباما هو اصلاح ذلك الخطأ الذي سماه أحد أقرب الناس منه على مسامعي "خطأ هاوٍ". وهو الآن يستطيع – من جهة واحدة – ان يُبين موقفه المفصل الذي يعارض بناءا اسرائيليا في المناطق، والخطر الذي يحدثه على مستقبل اسرائيل باعتبارها دولة يهودية وديمقراطية الى جانب الاضرار بقدرة الفلسطينيين على انشاء دولة ذات بقاء في المناطق، وأن يُبين من جهة اخرى ان عدم اجراء محادثات بين الطرفين لا يمنع بناءا كهذا بل انه بالعكس يُمكّن من استمراره. ولا يستطيع اوباما ان يبيح لنفسه ان يزور اسرائيل والسلطة وان يبقي الوضع الذي أحدثه في 2009 على حاله وهو الوقف المطلق للتفاوض السياسي.
لكن تجديد المحادثات غير كاف. فمن المهم ان يعرض الرئيس موقف الولايات المتحدة من الاتفاق الدائم في زيارتيه للكنيست ورام الله، وان يعرض على الطرفين اجراء تفاوض في تسوية جزئية في الطريق الى التسوية الدائمة (عن ادراك ان نتنياهو غير مستعد عقائديا لتقسيم شرقي القدس حتى في اطار اتفاق، أما عباس فلا يستطيع ان يمثل حماس وقطاع غزة). وسيجب عليه في المحادثات الضيقة التي سيجريها هنا ان يفحص بصورة أساسية مع الرجلين عن استعدادهما للتوصل فورا الى اجراء جزئي (دولة فلسطينية في حدود مؤقتة مثلا كما تقترح المرحلة الثانية من خريطة الطريق) وأن يقترح عليهما اجراء تفاوض هاديء بعيد عن أعين وسائل الاعلام برعاية امريكية للاتفاق سريعا على الحدود المؤقتة وعلى الترتيبات الامنية في الدولة الفلسطينية التي ستعترف بها اسرائيل، وحدود البناء وراء الخط الاخضر في المنطقة التي ستبقى تحت السيطرة الاسرائيلية.
ويستطيع اوباما ان يستغل زيارته للسعودية كي يفحص عن استعداد السعوديين لتحقيق بعض المبادرة العربية، بازاء تحقيق بعض الاتفاق الدائم الاسرائيلي الفلسطيني. فلو كانت الدول العربية مثلا مستعدة لأن ترسل الى اسرائيل مندوبين غير سفراء، كما فعل بعضها بعد اتفاق اوسلو، وان تعلن مسبقا انهم سيعادون الى بلدانهم إن لم يتوصل الطرفان بعد انتهاء المدة التي ستحدد للتوصل الى تسوية دائمة، الى اتفاق فسيكون ممكنا ايضا زيادة رغبة اسرائيل في التوصل الى اتفاق جزئي وزيادة الباعث على التوصل الى تسوية دائمة مع التوقيع عليها سترسل الدول العربية وأكثر الدول الاسلامية سفراءها الى القدس.
إن الكثير متعلق بزيارة اوباما القريبة. وحقيقة أنه امتنع عن زيارة اسرائيل في فترة ولايته الاولى تجعل هذه الزيارة النادرة ذات أهمية خاصة. ولن يساعد أي "خفض للتوقعات". من الواضح انه لن يجلب معه خطة سلام جديدة لكنه سيجلب تجديدا للمحادثات فورا وتحديد هدف جديد هو دولة فلسطينية في حدود مؤقتة بدل تسوية دائمة الآن، واشراك الجامعة العربية في هذه المسيرة يمكن ان يجعل الزيارة علامة طريق مهمة جدا للمسيرة السياسية في منطقتنا.
العنف في تونس * بقلم: د. دانييل زيسنوين
(المضمون: السؤال المطروح الان في تونس هو بالتالي: هل ستتمكن الجهات المختلفة في الدولة من التعاون ومنع التدهور مثلما فعلت بعد الثورة أم لعل تونس تقف أمام هوة من التطرف والعنف تهدد قيمها الاساس).
تواجه تونس في الاسبوع الاخير موجة من العنف السياسي والاحتجاج الجماهيري الذي اندلع بعد مقتل شكري بلعيد، زعيم المعارضة. وتهدد هذه الاحداث بوقف التقدم الذي تحقق في الدولة منذ الثورة التي اطاحت بزين العابدين بن علي من الحكم قبل سنتين وبشرت ببداية "الربيع العربي". وفي اطار ذلك تنشأ علامات استفهام عديدة حول قدرة الدولة على بناء منظومة سياسية جديدة تقوم على اساس احترام القانون، التعددية الاجتماعية والسياسية والسعي الى الديمقراطية.
الاحداث في تونس تعكس بقدر كبير المعسكرات السياسية والاجتماعية التي تبلورت فيها منذ الثورة، كما تعكس التقاليد والقيم التي تقبع في اساس الحياة العامة في الدولة منذ عشرات السنين. وفي التغطية الاعلامية للاحداث برز الميل لربط التطورات في تونس بالتدهور الاقتصادي في مصر وعدم الاستقرار الاقليمي منذ موجة ثورات الربيع العربي وصعود الحركات الاسلامية المتطرفة الى الحكم. ورغم الاغراء في ربط الاحداث في تونس بالتطورات الاقليمية، يجدر التشديد بالذات على الخصائص المحلية المميزة فيها. هذه النظرة كفيلة بان تمنح فهما اكثر تركيبا لما يجري في تونس، الدولة الاقل معرفة للجمهور الاسرائيلي، والتي تختلف بمفاهيم عديدة عن دول اخرى في المجال الاقليمي.
تونس، دولة صغيرة نسبيا في مساحتها وعدد سكانها (نحو 10.5 مليون)، تطورت في القرن العشرين في مسار سياسي واجتماعي مختلف عن الدول العربية الاخرى. اعمال القتل والعنف السياسي لم تكن ظاهرة تتميز بها.
وتاريخها السياسي فضل بشكل تقليدي الاستقرار والاعتدال على العنف والتطرف السياسي. وهي لم تواجه موجات ثورية، حماسة ايديولوجية قومية عربية وتهديدات متكررة من عدم الاستقرار. العكس هو الصحيح، فقد قدس المجتمع التونسي الاستقرار الذي اصبح قيمة مركزية في الحياة السياسية. والاسلام السياسي، الذي وجد تعبيره في نمو حركة النهضة، قمع بيد من حديد من السلطات واستبعد عن الساحة العامة رغم أنه واصل نيل الدعم الهاديء من المؤيدين الذين رأوا فيه تعبيرا عن مقاومة اصيلة للنظام. من ناحية اجتماعية ثبتت الطبقة الوسطى استقرار الدولة، وهي التي كانت واسعة نسبيا مقارنة مع دول عربية اخرى. ونشأت هذه الطبقة في أعقاب التنمية الاقتصادية للدولة، تحولت الى جهة ذات مغزى في الساحة العامة وساعدت في بناء الصورة المعتدلة والمؤيدة للغرب التي اتخذتها الدولة. وفي العقود الاولى بعد استقلالها (1956) تبنت تونس أنماطا علمانية في الحياة العامة. وضمن ذلك طورت مكانة النساء بشكل استثنائي مقارنة بدول عربية اخرى. وبالعموم يمكن بالتالي ان نميز الصورة الاجتماعية – السياسية لتونس كصورة مختلفة، إن لم نقل شاذة، مقارنة بدول المنطقة.
وخضع الاعتدال التقليدي للدولة والمجتمع للاختبار في بداية 2011، عندما أدى الغضب الجماهيري ضد الحكم المطلق للرئيس بن علي الى اطاحته ونفيه. فقد اندلعت الثورة في تونس ايضا على خلفية الواقع الاقتصادي المتدهور والاستياء العام من قطاعات متنوعة ملت حكم بن علي ونفرت من الفساد المتعاظم لمقربيه. وأذهل رحيله الجمهور الذي سارع الى الاعراب عن تخوفه من وضع عدم الاستقرار الذي من شأنه ان يمس بكل القيم الاجتماعية التي تم تطويرها وانغرست في المجتمع التونسي على مدى السنين. ومقارنة بالدول الاخرى التي اجتازت هزة سياسية في الربيع العربي، تمكنت تونس من أن ترسم بسرعة شديدة مسارا عمليا لاعادة بناء الساحة السياسية. وبالتعاون بين التيارات السياسية المختلفة، تقرر موعد للانتخابات العامة لجمعية تأسيسية خولت بصياغة دستور جديد. ومرت حملة الانتخابات في تشرين الاول 2011 دون احداث عنف خاصة. وتعهدت كل الاحزاب، بلا استثناء، بالحفاظ على القيم الاساس للمجتمع التونسي بما في ذلك مكانة المرأة. وعلى الرغم من الشعبية المتعاظمة لحركة النهضة (التي حظيت بالاعتراف كحزب لم يكن على اي علاقة بالنظام السابق وعبر تجاه الخارج عن مواقف معتدلة جدا)، نمت ايضا كتلة سياسية "علمانية" لاحزاب خشيت من تغيير متطرف في المواقف السياسية والاجتماعية لتونس وأعربت عن قلقها من امكانية صعود الاسلاميين الى الحكم.
ومع أن نتائج الانتخابات منحت عدد المقاعد الاكبر لممثلي النهضة، ولكنها الزمتها ايضا بان تشكل ائتلافا مع احزاب علمانية. وهكذا، اودعت ادارة الحكومة في يد النهضة، ولكن لمنصب رئيس الدولة عين منصف مرزوقي، نشيط حقوق انسان قديم ومعروف في تونس وخارجها. وشهد قيام ائتلاف متنوع كهذا، وبالتأكيد مقارنة بدول اخرى في المنطقة، ظاهرا على استعداد الجهات السياسية المختلفة لان تطور في الدولة ساحة سياسية جديدة ومتسامحة.
وانطلق الائتلاف على الدرب في بداية 2012 وواجه تحديات اقتصادية واجتماعية عديدة. وكانت توقعات الجمهور من الحكومة المنتخبة عالية جدا وتطلعت اساسا الى تغيير سريع في الوضع الاقتصادي في الدولة. غير أن الصعوبة في الايفاء بها ساهمت في خيبة أمل متعاظمة وعدم ارتياح عام في أوساط الجمهور. واذا لم تكن كافية الازمة الاقتصادية المستمرة، فقد وجد قادة النهضة أنفسهم في مواجهة مع خصوم سلفيين من اليمين، ومع اتهامات معارضيهم العلمانيين من اليسار، الذين ادعوا بان رجال النهضة ليسوا سوى حلفاء للسلفيين، يسعون معهم الى تغيير صورة تونس من الاساس. في اعقاب سلسلة من احداث العنف التي نسبت للسلفيين، ادعى معارضو النهضة بان الحكومة تهمل عن قصد عندما لا تقمع هذه الاعمال. وطرح هذه الاتهامات، ضمن آخرين، الزعيم المعارض، شكري بلعيد، الذي قتل الاسبوع الماضي عند مدخل بيته في العاصمة تونس. اما ادعاءات قادة النهضة في أنهم ليسوا شركاء في مواقف وتطلعات السلفيين فقد اعتبرت معاذير ومحاولات للظهور بالبراءة.
ويبرز اغتيال بلعيد والاحداث التي انفجرت في اعقابه خطوط الشرخ المتعمقة في المجتمع التونسي. فالحكومة برئاسة النهضة حشرت منذ الاغتيال في موقف من الدفاع عن النفس، في ظل التعهد بتقديم المسؤولين الى المحاكمة والمساعي للاشارة الى خصومها السياسيين لانها تعارض المتطرفين السلفيين. وفي مقابلها وقفت كتلة علمانية غاضبة شعرت بان هذه هي ساعة الاختبار لمستقبل الدولة، وتسعى الى تعزيز مكانتها على خلفية الغضب الجماهيري الواسع في اعقاب الاغتيال. وتدعم هذه الكتلة الاتحادات المهنية، التي تشكل جهة هامة في الحياة العامة. وفي الاسبوع الماضي أعلنت الاتحادات عن اضراب احتجاجي عام شل الدولة. وارتفع مستوى التوتر درجة اخرى في نهاية الاسبوع عندما اندلعت الى جانب المظاهرات التي جرت في العاصمة مظاهرات اخرى ايضا في مدن داخلية (مثل جفصة، التي لها تاريخ من الاحتجاج ضد الحكم)، ووضعت وحدات عسكرية في أهبة الاستعداد. والسؤال المطروح الان هو بالتالي: هل ستتمكن الجهات المختلفة في الدولة من التعاون ومنع التدهور مثلما فعلت بعد الثورة أم لعل تونس تقف أمام هوة من التطرف والعنف تهدد قيمها الاساس.