ست سنوات مرت، وكلما جاء شباط ماطرا، يأخذني المطر إلى ذاك اليوم الذي لا أنساه أبدا، وفيه رحلت ابنتي “ساجدة” بعد ان عاشت أحد عشر عاما، تقلبت فيها بين المرض والصبر على المرض.
دوما أتذكر معلماتها في المدرسة إذ ان اغلبهن كن يلقبن ساجدة بأم عائشة، وأمها كانت تلقبها بالنرجسة، ولم أكن أعرف ان الأيام ستروي لك مآلات اسمها وسرها، و ستفصل بين كل الألقاب.
المفارقة ان لقبها أم عائشة كان غريبا جدا، فلم تعش، ويدي كانت على قلبي منذ يومها الأول، حين كنت أتأمل وجهها الصبوح الملائكي الذي يقول لك إنها ليست من أهل الأرض، وهكذا كان.
هي إذن نرجسة، فالنرجس جميل ولا يعيش مطولا،وكأنه يأبى ان يحتمل الفصول الأربعة، بكل مافيها من تقلب وعبث وجنون وبرد وحر،هي النرجسة الجميلة التي تختار ميقات حضورها وغيابها ايضا، ولا قدرة لاحد على اشتراط المواعيد عليها،لا في الذهاب ولا في الاياب.
البيوت جنة إذ تتسيدها الطفلات تحديدا، وكثيرا من البيوت لا تعرف ان الأنثى هي سقيا البيت ورضاه، هي باب الجنة، وأصل الرحمة، ومن عنده ابنة يتشاغل عنها بكل شيء، وبذريعة كسب الرزق لها، غير ان بعضنا لايدرك ان الانثى حصرا، ضيفة عزيزة، فان تزوجت ابتعدت،وان ابتعدت بقي قلبها يرفرف حول أهلها، وان اكرمت بعطفها فاقت الذكر، وان غضبت اكتفت بدمعة اخفتها سرا حتى لايهلع عليها أحد.
هي قصة البنات في البيوت، كائنات فوق البشر،لانهن أصل الذكر والانثى، فتتأمل كم من بنت محرومة او مضطهدة او فقيرة، وكم بنت ابتليت ببيت لا يعرف إلا الشقاق، او برب بيت ظاهرة الرحمة وباطنة العذاب، ولو كانت هناك كلمة تقال لقيل لكل أب وأم ان دلال الطفلة،يستمطر الرحمات على البيت، و يستسقي عطف الله، وانا واحد صحوت ذات يوم، لاجد عزيزتي راحلة، فلم أملك لحظتها إلا ان يعصف قلبي مستذكرا كل لحظة، ومتسائلا عما إذا اطعمتها حراما لاسمح الله فعوقبت، وعما إذا لم اصن حقها،أو قصرت معها، واذ افوز بالاجوبة،يبقى الرحيل مرا صعبا مهما استدعيت الموروث الديني والاجتماعي للتخفيف من الفاجعة.
لا تغيب نرجسة عن بيتي، كثيرا ما أسمع صوتها تنادي، وكثيرا ما أراها في منامي حين تضطرب الدنيا وتضيق الحياة ويتطاول البشر،ويظلم الناس، و كثيرا ما ترتسم ابتسامتها الصابرة وكأنها تقول لي اصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، و كثيرا ما توصل لي رسالة.
مرة تصدقت عنها، فرأيتها في ذات الليلة تمازحني بصوت يفوق طفولتها وتقول وقد مدت يدها إلى محفظتي (ادفع كمان)وكأنها تستزيد وتستزيد.
“أم عائشة” ليست وحدها، معها العنود ويحيى وزيد ابناء المحامي يسار الخصاونة الذين رحلوا ذات حادث سير غادر، فكانت بانتظارهم عند باب الجنة، وقبل ايام كانت هناك تنتظر كندة وشام وخالد انجال زميلنا الراحل الكاتب الصحفي سامي الزبيدي الذين رحلوا بحادث سير ايضا، وقد وقفت عند باب الجنة ومعها ملايين الأطفال الذين قضوا شهداء ومحرومين ومرضى ومظلومين،ومازالوا بانتظار اكتمال النصاب في الجنة.
سميت الجنة لانها مكتظة بالأطهار، وسميت الأرض بدار الشقاء لفرط قسوتنا وظلمنا، وعدم اعتبارنا وكأن الدنيا دائمة لنا، فلا نصحو إلا حين تطرقنا الأقدار بمطارقها.
الدستور