أربعة مهتمين في الشأن الإعلامي جمعهم لقاء ذات يوم: وزير إعلام سابق، صحافي عتيق، رجل إعلام أو أعمال وصاحب مكتب دعاية وإعلان.
دار الحديث حول شؤون الساعة وقتها، إلى أن استقر وتمحور على موضوع المطبوعة الجديدة التي كانت صدرت قبل عدة أسابيع.
السؤال كان: هل ستبقى وكيف ستعيش؟
حدث ذلك قبل ثلاث سنين والمطبوعة كانت "الغد".
يبدو أن هذه الصحيفة وجدت لتعيش، فهي اليوم ماثلة وبقوة على الخريطة الإعلامية الأردنية، وهي قادرة على الوقوف على أرجلها رغم حداثة سنها ومستقبلها ما يزال أمامها.
عملتُ في هذا الحقل منذ 1981، ولو قال لي أحدهم آنذاك أو حتى بعدها بعقدين من الزمن إن السوق الأردنية ستشهد ولادة كل هذا الكم الهائل من المطبوعات (سبع صحف يومية وعشرات الجرائد والمجلات الأسبوعية والشهرية)، بالإضافة إلى وسائل الإعلام الأخرى المرئية والمسموعة والإلكترونية الأخرى، لما صدقت.
ولكن هذه هي الطفرة، وها أنا أجد "الغد" ليس فقط على قيد الحياة، وإنما أجد نفسي فيها وأجدني رئيساً لتحريرها.
في مهمتي الجديدة، سأستمر في محاولة فهم ماذا يحدث في المجال الإعلامي الأردني والعربي، ناهيك عن العالمي، ولكن البداية هذه المرة تتطلب الغوص في ظاهرة "الغد" لنضعها في نصابها الصحيح.
لن أحاول هنا تقييم مسيرتها الصحافية خلال الأعوام الثلاثة الماضية، لسببين: الأول أن ذلك يعني بالضرورة أنني سأقوم بعمل غيري بما في ذلك الخوض في مجالات النشر والإعلان والتوزيع والمنافسة مع الصحف اليومية الزميلة، فلهذه الجريدة صاحبها وناشرها وهو قادر على القيام بتلك المهمة. أما السبب الثاني فيتمثل في أنه ستمر علينا مناسبات كثيرة نستطيع خلالها أن نتحدث عن "الغد" كوسيلة إعلامية متجددة بدلاً من أن نناقش مثل هذا الموضوع في عجالة من أمرنا هنا.
ما سأفعله كرئيس للتحرير هو أن أحافظ على كل ما تحقق وأثمر في مسيرة "الغد" التحريرية وأن أعمل مع فريقي على تطوير الجوانب التي تحتاج الى العمل والتحديث والتطوير.
سنقوم بهذه المهمة في إطار محكم البناء تغلفه المهنية والأمانة والموضوعية، فنحن ندرك أنه من خلال عملنا اليومي إنما ننشر مسودة تاريخنا المعاصر وننشد الوصول إلى حقيقة ما يحدث هنا، كأفراد ومجتمع وكدولة، وما يجري حولنا في المنطقة، والعالم أجمع.
الكاتب الفيلسوف آرثر ميللر يُعرّف الصحيفة الجيدة بأنها "وطن يتحدث مع نفسه"، وها أنا أرى لنفسي ولزملائي القدامى الجدد في هيئة التحرير دوراً في هذا الاتجاه.
فعلى رأس أولوياتنا أن نخدم الوطن والمواطن وأن نحترم عقول قرائنا ونقدّر إنسانيتهم وذكاءهم.
إن "الغد" لكل من يقرؤها، ولهم أن يتوقعوا منا أن نعمل بكل نزاهة وجرأة وتجرد من أجل الوصول إلى المعلومة التي تهمهم، وأن نكتب عنها بتوازن وبمسؤولية، وأن نقوم بتحليلها وشرح معانيها بكل عمق ووضوح، وأن نتابعها بمثابرة وجدية، وأن نعرضها بأناقة وتحوط ليتمكن الجميع من قراءتها بسهولة ويسر، وفهم مراميها وما يؤثر منها على حياتهم.
علينا مسؤولية تنوير المجتمع وقيادة الرأي العام في قضايا قد لا تكون مفهومة أو لا تتمتع بالشعبية الكافية في بعض الأحيان، وسنتحمل هذه المسؤولية بكل تواضع وتفهم وقبول للرأي المخالف، وستكون "الغد" منبراً للجميع للإدلاء برأيه أو رأيها في كل القضايا المطروحة، إن كانت خلافية أو غير محسومة أو ببساطة قابلة للنقاش.
علينا تقع مسؤولية مراقبة الحكومة والتصرف بالمال العام وأداء البرلمان ومؤسسات الدولة المختلفة، كما علينا رصد اتجاهات الرأي العام وإيصاله إلى المسؤولين والعامة في الوقت ذاته عبر أعمدة الجريدة ومن غير واسطة أحد.
وسنكون عيون وآذان الناس في عملية تكوين الدولة الحديثة التي تؤمن بأهلها وتسعى من أجل خيرهم وسعادتهم ضمن أطر سيادة القانون والديمقراطية والتعددية والمساواة وبناءً على مبادئ الحرية والتسامح والانفتاح.
وسنسعى في غمرة ذلك كله إلى أن يكون سقف حريتنا في العمل والكتابة السماء، كما أرادها قائد الوطن وأكد عليها في افتتاح البرلمان الخامس عشر وجدد انتصاره لحرية الرأي، حيث ذهب جلالة الملك إلى ما هو أبعد من تحديد سقف الحرية، وأبدى حرصه الشديد على حرية الكلمة حين قال بأنه "من غير المقبول أن يسجن الصحفي بسبب خلاف في الرأي على قضية عامة".
لا نعد باجتراح المعجزات أو بتحقيق النجاحات، الواحد تلو الآخر، فهذا عمل يومي شاق ومضن، يبدأ ولا ينتهي، تقف في طريقه كل أشكال المعوقات وتحدد مساره شتى أنواع القوانين والأنظمة التي ليست بأكملها ديمقراطية أو ناضجة، وتشوب هذا العمل اليومي الممارسات المقاومة للتغيير والإصلاح وحتى الخاطئة منها في بعض الأحيان. كما تقيّد حركتنا العادات الموروثة والانغلاق والتمترس خلف بعض التقاليد المجتمعية البالية. وفي هذا الصدد لا بد من الاعتراف بما قد يعتري عملنا من خطايا وأخطاء نرتكبها نحن ممارسو هذه المهنة إما عن سوء تقدير أو سهو ككل البشر أو عن عدم دراية أو ضعف في التدريب أو غياب الرؤية.
لم أرد لكلمتي الأولى في "الغد" أن تنقلب إلى مانفيستو أو بيان مبادئ، ولكن في مشوار كهذا، لا بد من تحديد الرؤى ورسم الدرب التي عليها سنسير. الدروب التي اختطتها هذه الصحيفة بقيادة زميلين عزيزين هما الأستاذ عماد الحمود الذي يسجل له فضل قيادة الفريق التحريري الذي أخرج الصحيفة إلى حيز الواقع، والأستاذ أيمن الصفدي الذي أقلع بالصحيفة إلى مستوى الاستقرار والمنافسة، مكرسا تقاليد مهنية راقية يعتز بها سائر العاملين في "الغد". ولم تكن لهذه النجاحات أن تتحقق لولا دعم زميلنا الناشر الأستاذ محمد عليان ومشاركته التي أسست لمسيرة هذه الصحيفة وأثرتها وأخذتها بعيداً الى الأمام باتجاه زرعها في الوعي الأردني ونقشها على خريطة الإعلام العربي المتمدن والحديث.
وصلنا بعزم وثبات إلى هنا، وبكم نكمل الدرب..