مناسبة هذا المقال هي دراسة وقعت بين يدي حول التجربة التركية في تقديم مشاريع إسكان لذوي الدخل المحدود. وملخص الدراسة هو أن مدينة اسطنبول باتت تستقطب أعدادا متزايدة من أبناء الريف بسبب النجاحات الاقتصادية التي كانت تحققها، وفرص العمل التي كانت تولدها. وخلال عام، تم توفير نصف مليون وحدة سكنية، استفادت منها نصف مليون أسرة؛ بما يعادل إيواء 2.5 مليون مواطن.
السلطات أدركت أن الوافدين الجدد إلى المدينة لا يمكن أن يتحملوا مصاريف المدينة الكبيرة، ولا أن يتملكوا بيوتا جديدة بدون مساعدة الدولة. وكدولة شرقية إسلامية، فإن السكن يتعدى كونه منزلا لقضاء الليل، بل هو فضاء اجتماعي تُمارس فيه العديد من الأنشطة العائلية، تماما كما هو الحال في الأردن، حيث يفضل الأب رؤية عائلته تتحلق حواليه بشكل أو بآخر.
التشخيص في الأردن لا يختلف عنه في تركيا من حيث الحاجة إلى مساعدة الكثير من الأسر لتملك منزلها الخاص. فالإحصاءات تُظهر أن كلفة المنازل تبلغ عشرات أضعاف الدخل السنوي. وهو ما يعني استحالة تملك منزل بالاعتماد على المدخرات التي يوفرها العاملون، والذين يعانون، أيضا، من ارتفاع نسبة الإعالة في الأردن. وإذا أخذنا بعين الاعتبار نسبة العاملين في الأردن إلى نسبة السكان، يصبح التدخل في هذا المجال، والمساعدات من الدولة لأبنائها، ضرورة ملحة لغايات تحقيق السلم الاجتماعي.
استجابة لهذا الظرف والعناصر التي لا خلاف عليها، ولدت فكرة سكن كريم. وهي تستهدف توفير مساكن "كريمة" لفئات عاملة، ولكنها لا تستطيع تأمين المسكن اللائق. وما نقول به هو أن المشكلة لم تكن يوما متعلقة بالفكرة، بل بالكيفية التي ترجمت بها. فبدلا من توفير أنماط مرنة تراعي خصوصية الأردنيين الذين يحتاجون إما إلى قطعة الأرض الصغيرة، أو إلى تأمين التمويل بشروط ميسرة، عدنا إلى الحقبة الاشتراكية بتوفير مساكن شبه جماعية. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد؛ إذ إن التنفيذ، وإحالة العطاءات، وسوء الإدارة، كلها عوامل ساهمت في وأد فكرة لا يختلف اثنان على مدى صحتها أو ضرورتها للمجتمع الأردني الفتي.
فالشاب الذي يلتحق بسوق العمل، لا يتمكن من الاعتماد على ذاته لتوفير مسكن. وتبدأ معاناته بدفع الإيجار، وتوفير المصاريف الأساسية، وما يؤديه ذلك إلى زيادة الاحتقان وفقدان الأمل في تحقيق استقرار طويل المدى. وللمتسائلين لماذا يترك الشباب سوق العمل ولا يظهرون التزاما، فإن جانبا من المشكلة هو الأفق، وما يلوح فيه من آمال لتحقيق نقلة نوعية في الحياة لا تتحقق بالاعتماد على مصدر الدخل المتحقق من العمل وحده.
يجب إعادة النظر في آليات تطبيق الفكرة النبيلة وفقا لمعايير جديدة، ووفقا لأسس تضمن الشفافية وتراعي طبيعة الاحتياجات المتنوعة للعائلات الأردنية. وسوء التطبيق لا يعني أن الفكرة خطأ، بل ما يجب العمل على تعديله هو كيفية إدارة هذا النوع من المبادرات لتحقق الأهداف المرجوة منها، بحيث تصبح من الأمور الإيجابية التي تحسب للدولة، بدلا من أن تستحيل عبئا عليها. فالحاجة ما تزال قائمة، والأمل معقود على إعادة النظر في هذا البرنامج الذي نجح منفذوه في إدخاله نفقا مظلما.
الغد