لا قيمة لأية رسالة اذا اعادها ساعي البريد الى المرسل، فالمرسل إليه هو القطب الاخر في معادلة الكتابة والحوار كي لا تتحول المسألة كلها الى مونولوج وتداعيات مع الذات.
ومن حق هؤلاء الانداد الذين نسميهم قراء فقط على سبيل المجاز ان نعترف لهم بالفضل مرة كل بضعة اعوام على الاقل فهم البوصلة والدليل، وما نسمعه منهم مباشرة او عبر الهاتف يستوقفنا لمراجعة انفسنا وكل حرف كتبناه، لانه ما من سبيل للفهلوة والخداع عندما يتعلق الامر بهذه الكتابة.
فنحن لا نتعلم منهم فقط، بل نصغي الى انفاسهم في عمق الرئات، لاننا غادرنا ذلك الزمن الذي كان الفاصل فيه بين المرسل والمرسل اليه صحارى بلا حدود، والقارئ الان شريك وليس صدى، لان التلقي اصبح فنا بذاته وليس مجرد استهلاك، لهذا صدرت في عواصم اوروبا عدة كتب عن فن القراءة ونادرا ما اهتم العرب بهذا الشجن الحضاري رغم اهميته الفائقة، وحين اصدرت قبل عقود كتابا ضمن سلسلة الموسوعة الصغيرة بعنوان تجارب في القراءة كان اول من حفزني على تأليفه هو الالماني جون شتايز، بعبارة عميقة وذات مغزى بعيد هي «ان القراءة تغيرنا» فنحن بعد كل كتاب لسنا ما كنا عليه قبله، وتكررت هذه المحاولة قبل اعوام عندما اصدرت كتابا عن دار الهلال في القاهرة بعنوان ثنائية الحياة والكتابة، حفزني عليه ايضا كاتب اخرعندما قال «كيف يمكن لمن يقرأ رواية كانكا «المسخ» ألا يجفل امام المرآة؟
المرسل اليه، هو مرسل ايضا وتلك هي الجدلية الخالدة بين حلم وحلم وخيال وخيال وعذاب وعذاب وكم نتمنى لو ان لمهنة الكتابة كالطب قسما مثل قسم ابو قراط، كأن يكون باسم ارسطو او افلاطون او اي فيلسوف اخر، كلها مهنة بلا قسم، وما من روادع او كوابح فيها الا الضمير ذاته، الذي ان فسد اصبح الحق زورا والضحية خرساء والكلمة قبرا وليست مهدا.
يخطئ حتى العمى من يستخف بهذا المرسل اليه، فهو قد يكون صامتا لكنه صمت له حفيف وقابل للترجمة بحيث تكون الدمعة ابلغ من اسمها والابتسامة اوسع من الشفتين اللتين ترتسم عليهما.
ما من مرّة استوقفني المرسل اليه الا وارتعشت اصابعي، خشية ان تكون قد كذبت او رسمت بالطبشورة البيضاء ما يجب رسمه بالفحم او بالدم.
هؤلاء انداد بامتياز وان كان صمتهم ابلغ من اية كتابة لانهم مناجم الذهب والماس وليسوا مجرد عينات منهما معروضة في واجهات الكتابة.
الدستور