لا يُخفي العنوان الاحتفالي أعلاه، ولا أي من المساهمات السابقة لكاتب هذه السطور، منذ بدء النقاش حول موضوع الانتخابات النيابية المبكرة، ميل الكاتب إلى الاحتكام لصندوق الاقتراع، وانحيازه إلى خيار العودة للشعب مصدر السلطات عندما يضطرب المشهد السياسي، وتتلبد غيوم القلق في الأفق، رغم ما لديه من تحفظات على قانون الانتخاب، ومخاوف مستمدة من تجارب مؤسفة ما تزال في البال. وذلك كله من أجل إعادة فرز الأوراق وفض الهواجس وترتيب الأفضليات، باعتبار أن مثل هذه العملية تمثل ممر عبور إجباري لتصويب الاتجاه العام، وغربلة قمح الحقائق عن زيوان الادعاءات.
ولعل مصدر هذا الرهان الذي لم يتزعزع؛ القائم على مبدأ "ما لا يدرك كله لا يترك جُلُّهُ"، والمعلق دائماً على سارية الانتخابات، سواء أكانت على مستوى الجمعيات والأحزاب والنقابات، أو كانت في نطاق المجال العام، هو الاطمئنان الشديد إلى صحة خيارات الأغلبية من الناس، وسلامة هذه الأداة الوحيدة القادرة أكثر من أي وسيلة أخرى، على قياس الأحجام، والتثبت من وزن الأفكار، والكشف عن الاتجاهات السائدة في الزمان والمكان. فضلاً عن سبر غور المزاعم وفض الالتباسات المرافقتين عادةً لخطابات القوى المهوّلة بقوة التمثيل، والجماعات المدعية بالصواب والصدارة والنطق باسم الجماهير.
وأحسب أن مسيرة يوم الجمعة الماضي، المخطط لها منذ نحو شهر، كانت بحشدها المتواضع بكل المقاييس، وشعاراتها الشبيهة برغيف خبز بائت في العراء، ناهيك عن صدمة منظميها الذين خسروا، أمام الكاميرات، الرهان مبكراً على بناء شرعية شعبية تعادل الشرعية الدستورية وترجح عليها سلفاً، تلك المسيرة كانت بمثابة دليل حاسم على أن شيئاً ما قد تغير في المزاج العام، وأن ما كان مقبولاً ومفهوماً في بداية الحراك قبل نحو عامين، لم يعد محل اهتمام الأغلبية الغالبة من الناس، حتى لا نقول إنه بات موضع توجس عميق آل إلى رفضٍ شبه تام.
وقد جاءت أقوال بعض من يعيشون في واد آخر قصي عن رحاب النبض العام، حول قرب قيام دولة الخلافة، واستطلاع بشائرها منذ الآن، دليلاً إضافياً على غربة هؤلاء المسكونين بماضٍ مضى إلى بطون التاريخ، وعزلتهم عن واقع شعبي أكل كثيراً من صحون هذه المبالغات إلى حد التخمة، خصوصاً أن تلك النماذج الإسلامية التي ملأت الأبصار والأسماع بتطبيقاتها الرديئة على الأرض في غير بلد عربي واحد، جاءت نتائجها مخيبة لآمال الناس، وأتت مظاهرها المروعة؛ من استئثار واستقواء وإقصاء، لتستدرج مزيداً من الفوضى والإفقار واليباب، وذلك على عكس التعهدات والوعود بالشراكة والتوافق والإجماع.
على هذه الخلفية من الوقائع المتفرقة والتطورات الجارية من هنا وهناك، يأتي يوم الأربعاء الكبير غداً على أرضية مواتية أكثر من انتخابات سابقة، ليأخذ مكانه الملائم في رزنامة هذه الحقبة الانتقالية، كمحطة مهمة على طريق التطور الديمقراطي المتدرج الذي أملته جملة طويلة من الحراكات الشبابية والمطالب الشعبية، والضرورات المستجيبة لمقتضيات الربيع العربي، وذلك قبل أن يتجاوز العدميون حدود الشعارات الإصلاحية، ويندفع الأصوليون نحو خيار "إما أن تجرى الانتخابات وفق شروطنا وإما أن لا تجرى انتخابات".
وإذا كان لكل دورة انتخابية مفاجآتها، وكان لكل مرحلة خصوصيتها، فمن غير المستبعد أبداً أن تحمل انتخابات يوم غد مفاجآت غير متوقعة، لاسيما على صعيد القائمة الوطنية؛ وأن تتسم هذه الجولة بسمة إيجابية مميزة لها عن الجولات الانتخابة السابقة، مثل ارتفاع نسبة المشاركين، ونزاهة العملية، وذلك بفضل ما تم بذله من جهود رسمية في كل ما يتعلق بمسائل الرقابة والشفافية ومحاربة المال السياسي، وغير ذلك من الشروط الكفيلة بإدراج انتخابات الدورة السابعة عشرة، في قائمة أفضل انتخابات ممكنة في العالم الثالث. وهو ما سيعبّد الطريق أوسع فأوسع نحو إجراء جولة مقبلة كاملة الأوصاف، على ما يأمل الواثقون بحتمية التطور الديمقراطي الحثيث.
الغد