الدولة الأردنية بين الأبوية والمدنية .. قراءة!!
شحاده أبو بقر
16-01-2013 06:27 PM
عمون- ثمة سؤال كبير يتمحور حول السبب الخفي وراء تراجع قدرات المجتمع الأردني إزاء فرز قيادات مجتمعية أو قادة رأي عام يمكن ان يطلق عليهم وصف "رجال دولة" بالمعنى الحقيقي مكتمل الشروط لهذا الوصف !.
• هناك من يعتقد ان المجتمع الأردني لم يتمكن فعلا خلال العقدين الأخيرين من إنتاج شرائح مطلوبة وتحتاجها الأوطان والمجتمعات من فئة رجال الدولة القادرين على التأثير في مجريات الأحداث وتوجيه الرأي العام، بما يتوفرون عليه من خصائص إنسانية وقيادية تجعلهم أهلاً لهكذا مهمه.
• وهناك من يرى ان خارطة ما تم إنتاجه من قيادات محلية على مستوى المدن والقرى والمخيمات والبوادي والأرياف خلال عشرين عاما مضت، لا تؤشر للمراقب المحايد إلا إلى شخوص قليلين عدداً وبعضهم تنحسر في ذاته قدرات رجل الدولة إلى حدود ملحوظة، تفقده الأهلية لان يكون ذا أثر ملموس في النشاط العام للمجتمع.
• وفي هذا السياق فان هذا الواقع جنح بالمجتمعات المحلية الصغيرة وبالمجتمع بمجمله بالتالي إلى ما يشبه الفوضى والانفلات في غياب أو تراجع وجود ذلك النمط المعتاد من رجال الدولة وقادة الرأي العام الحقيقيين الذين يحظون بقبول داخل مجتمعاتهم الصغيرة، والذين بمقدورهم توجيه الرأي بين أوساط تلك المجتمعات الوجهة الصحيحة التي تخدم المسيرة العامة للمجتمع وتسهم في إثراء الأداء الكلي للدولة.
• وعند البحث عن السبب الكلي لتراجع قدرات المجتمع الأردني حيال إنتاج النوع والكم المطلوب من رجال الدولة وقادة الرأي العام، يرى كثيرون أن ذلك عائد بالضرورة إلى عوامل عديدة بعضها رئيسي مؤثر مباشرة، وبعضها الآخر ثانوي يسهم في التأثير ذاته ولكن بطريقة غير مباشرة.
• ويجادل هؤلاء في السبب الرئيسي ويرون انه كامنٌ في منهجية التحول المجتمعي الأردني منذ نهايات الثمانينيات من القرن الماضي وحتى اليوم، من مجتمع تقليدي مادته وعجينته السياسية والاقتصادية والاجتماعية مادة اجتماعية عشائرية عائلية، إلى مجتمع يمكن أن يطلق عليه وصف المجتمع المدني الحديث، أو بمعنى آخر محاولة الانتقال بالدولة الأردنية من دولة تقليدية عصبها ومحورها اجتماعي عشائري عائلي، إلى دولة مدنية تكرس مبدأ الفرد لا العائلة أو العشيرة!.
• ويذهب المراقبون إلى تقرير حقيقة ان الدولة الأردنية التقليدية المعهودة ، كانت العائلة والعشيرة في غياب المدد الحزبي ، هي مصدر تمويلها "إن جاز التعبير", بقادة الرأي العام ورجال الدولة، إذ في كل تجمع سكاني قرية كان او مدينة او مخيماً أو سوى ذلك ، يبرز فطرياً وطبيعياً قادة رأي عام يحظون بإجماع عائلي وعشائري داخل مجتمعاتهم، ويصبحون تلقائياً قادة رأي عام، وذلك نظراً لما يتوفرون عليه من صفات اجتماعية وتربوية او سياسية او اقتصادية تجعلهم فعلاً محط احترام وتقدير مجتمعاتهم المحلية، وبالتالي تتوفر لديهم القدرة على التأثير في الرأي العام وقيادته، ومن هنا يلفتون انتباه دوائر صنع القرار والسياسات على مستوى مجتمعاتهم المحلية ابتداءً ثم على مستوى القرار الأعلى في الدولة، وعليه يصبحون مؤهلين لتسُنم مواقع متقدمة وقيادية على مستوى الدولة !.
• الواقع ان عملية أو منهجية الانتقال بالدولة من تلك الحالة وذلك الواقع، إلى ما يطلق عليه وصف الدولة المدنية أو دولة المواطنة بمعزل عن الدولة الأبوية أو الرعوية، تمت بأسلوب غير مكتمل، فقد تم إلغاء قانون العشائر ابتداء منتصف الثمانينيات، ثم بدأت أعراف العشائرية بالتراجع ، أي ان الأردن تخلى عن حالة عامة ظلت سائدة لعقود، ولكنه لم يوجد البديل، وهو الانتقال الكامل إلى الدولة المدنية وقوامها السياسي والاجتماعي هو الأحزاب السياسية مكتملة الشروط، والقادرة فعلاً على ان تحل محل العشيرة والعائلة في إنتاج قادة رأي عام، أي ان الأردن صار حاله كحال المسافر الذي همَّ بالانتقال من بلد إلى بلد آخر، فتجاوز نقطة الحدود الرسمية للبلد الأول، ولم يتقدم فعلياً نحو نقطة الحدود الأخرى في البلد الآخر، وبذلك تمترس في المنطقة المسماة "المنطقة الحرام "، فلا هو غادر فعلياً البلد الأول، ولا هو دخل فعلياً البلد الآخر !.
المنطقة الحرام لو جاز التعبير، لا تنطبق عليها تشريعات ولا أعراف، فهي منطقة غريبة والقابعون فيها غرباء مجازاً، وهم بالضرورة أمام احد خيارين لا ثالث لهما ، فأما العودة من حيث أتوا، أو التقدم إلى الإمام، ويبدو ان حالنا في الأردن ومنذ منتصف الثمانينات وحتى اليوم، هو كهذا الحال فقد تخلينـــا عن العشائريـــــة سياسياً، ولم نوجد أحزاباً سياسية حقيقة قـــادرة على " تعويض النقص "، وإنتاج قيادات مجتمعية سياسية وقادة رأي عام .
• وللدلالة على صحة ما تقدم، فإن الأحزاب السياسية الأردنية لم تتمكن حتى الآن من فرز قيادات رأي عام بالمفهوم الفعلي لقيادة الرأي العام ، وبكم ونوع يسد حاجة المجتمع، اللهم سوى استثناءات بسيطة مرجعيتها دينية عقدية، أي إن الأحزاب الايديولوجيه سواء تلك اليسارية أو القومية أو تلك الوسطية الوطنية، لم تتمكن جميعها من سد حاجة المجتمع الفعلية على هذا الصعيد.
• باختصار يقول المراقبون ، إن جُلّ معاناة الدولة الأردنية والمجتمع عموماً، سببها الأول الرئيسي هو هذا الغياب الملحوظ لقيادات الرأي العام القادرة على التأثير في مجتمعاتها ، وعليه حدث الانقلاب العام، وتكاثر من يعتقدون بأنهم قادة رأي أو قادة أحزاب يمسون خمسين حزباً، ويصبحون عشرين أو اقل، وهكذا في نسق صعب لا يكاد صاحب القرار الرئيس في الدولة معه أن يجد شخصاً " يمون " في مجتمعه المحلي البسيط .
• هذا الواقع جعل رجال الدولة التقليديين ممن يطلق عليهم وصف " الحرس القديم " من قبل الجيل الجديد ، موضع اتهامية وتشهير وتلاوم، لا بل ان هذه الفوضى الاتهامية مست الدولة والمجتمع برمته، عندما يصبح الرأي تائهاً بين العشرات والمئات والآلاف والملايين من أبناء الجيل الجديد ، وبصورة لا يمكن لعاقل ان يتصور موضوعياً ومنطقياً وحتى رياضياً ( رياضيات) ، ان عشرة أشخاص يمكن ان يجمعوا على رأي واحد، فلكلٍ رؤيته التي يجب على الدولة لا بل على البلد كله ان يتبناها ، وإلا فهو بلد يأخذ طريقه في الاتجاه غير الصحيح !.
الحل ربما هو إما أن نعود إلى حيث كنا ، وأما ان نتقدم " وهو الأصوب " نحو بناء الدولة المدنية الحديثة المتطورة سياسياً، وقوامها نهضة حزبية شاملة تصلح فعلياً لان تكون قاعدة صلبة لإنتاج المشغلين لسائر مفاصل الدولة ، وفق نهج وطني، وفي إطار الدستور والقانون والعرف الاجتماعي الأردني المعهود ، وتحت مظلة العرش الهاشمي الذي يجسد المملكة الأردنية الهاشمية بخصوصياتها وهويتها الوطنية وثوابتها الراسخة، ويقيناً فان التخلي عن النسق الاجتماعي كمصدر لإنتاج رجالات دولة لا بد وان يكون له بديل كفؤ ، وهو في الزمن الراهن ، النسق الحزبي السياسي الكامل!.