ينبغي أن تكون رسالة جميع القوى السياسية وكل الأحزاب والجماعات المنخرطة في العملية الإصلاحية هي "تحرير العقل البشري" أولاً، على طريق الأنبياء والرسل وكل رواد الإصلاح عبر التاريخ، لأن المشكلة الكبرى والعائق الأشد صعوبة أمام تقدم المجتمعات وتطورها يتمثل في انغلاق العقول وتحجرها، وإلغائها، ومنعها من ممارسة دورها.
لقد خلق الله الإنسان وكرّمه بالعقل، وميّزه عن جميع المخلوقات بالقدرات التفكيرية التي أهّلته لحمل الأمانة وتحمل مسؤولية الخلافة في الأرض ورسالة إعمار الكون وإصلاحه ومواجهة الأشرار ونفي الخلل والتغلب على مصاعب الحياة وآثار المفسدين في الأرض.
لم تكن مهمة الرسل والمصلحين الوصاية على عقول الخلق، ولم تكن رسالتهم متمثلة في التفكير نيابة عنهم، ولم يمارسوا عملية التلقين وتعبئة الأذهان الفارغة وملء الأفئدة الخاوية، بل كانت رسالتهم بتعليم الناس كيف يفكرون، وكيف يستعملون عقولهم بطريقة منهجية صحيحة، تبتعد عن التقليد الأعمى، وتنهاهم عن التبعية الغبية خلف كل ناعق والتصفيق لكل خطيب.
ولذلك كان الخطاب القرآني المتوجه للناس: "قل سيروا في الأرض ثم انظروا"، "الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض"، وعاب القرآن الكريم على الذين لا يستعملون عقولهم وأبصارهم عندما قال لهم أعين لا يبصرون بها، ولهم قلوب لا يعقلون بها، وأكثر ما استنكر القرآن على المقلدين دون تفكير، "الذين قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون".
وعلم القرآن الإنسان كيفية الحصول على المعلومة بطريقة علمية صحيحة بقوله: "ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً"، وقال أيضاً: "إن يتبعون إلاّ الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"، كما علم القرآن الناس كيف يسمعون وينصتون ثم يوازنون بين الأمور: "الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه". كما علم الناس التثبت والتبين وعدم التعجل في الحكم: "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا".
وقد وصف الله المشركين العاجزين عن مناقشة الأفكار ومقابلة الحجة بالحجة باللجوء إلى أسلوب إلقاء التهم المسبقة وعدم السماع والإنصات لصاحب الرسالة فقالوا: "لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه".
اليوم نرى أشد المفارقات عجباً من بعض الذين ينتسبون زوراً إلى قوى الإصلاح أنهم يسلكون مسلك إلغاء العقل، وممارسة الوصاية على عقول أتباعهم، بإصدار الأوامر لهم بعدم التعاطي مع بعض الأفكار وعدم الاستماع لبعض أصحاب المبادرات، وينظرون إلى أتباعهم وكأنهم كائنات قاصرة غير راشدة وغير قادرة على التفكير وغير قادرة على التمييز، ويعملون بمضمون الشعار القائل: "لا تفكر نحن نفكر عنك"، وبدلاً من تزويد الناس بالفكرة وتزويدهم بالثقافة التي تؤهلهم للتفاعل مع أصحاب الأفكار واستخدام عقولهم في الحكم على الأشياء يسارعون بإصدار التعميمات والأوامر: لا تسمعوا، لا تتصلوا، لا تجتمعوا، لا تتعاطوا مع الأفكار، وكأنها نوع من المخدرات والممنوعات..!!!
في عام "2013"م الذي يمثل العام الثالث للربيع العربي، والذي ينبغي أن يمثل بداية التحرير للعقل العربي المعاصر ولكل العقل العالمي، ما زال بعض "المتعربشين" بالعمل الإصلاحي الإسلامي، يمارس سلطة متعسفة في إصدار الأوامر لمن يفترض بهم أن يكونوا طلائع التحرير الفكري والثقافي في الأمة: بمنع التعاطي مع فكرة كذا وبمنع الاستماع لكذا، مثل بعض الأوامر التي صدرت في منتصف القرن الماضي للشعب بعد الاستماع لإذاعة "صوت العرب".
أعتقد أن هذا التعميم الحزبي يمثل جريمة خطرة ومروّعة، يحق للشعب الأردني أن يبدي تخوفاً ملحوظاً من مقدم مثل هذه العقليات إلى السلطة التي سوف تملك السجن والسجان وأوامر النفي والإعدام، أمر يستحق النقاش فعلاً.
a.gharaybeh@alarabalyawm.net