يثبت الملك يوما بعد يوم انه الرابح الاكبر من الربيع العربي, ليس لاستجابته السريعة لمطالب الحراك الناضج ولا لاستباقه الربيع بدعوات تحمل مضامين اصلاحية ساهمت في استنهاض الاغلبية الصامتة وإلهاب خيال جيل الشباب حصريا , بل لان الربيع وما رافقه من الحراك كان رافدا وداعما لبرامج الملك الاصلاحية وداعما لافكاره السياسية , خاصة في تسريع وتيرة الاصلاح التي تباطأت عجلتها لدفع عكسي من المستفيدين من الوضع القائم اضافة الى تكبيل ايادي الفاسدين التي اعتادت او استسهلت التطاول على المال العام وتوقيع القرار الاداري الذي يخدم مصالحها .
مرة اخرى يشرح الملك رؤيته المستقبلية لمجلة لونوفيل اوبزرفاتور الفرنسية , ويؤكد على ان المستقبل مربوط بالعملية الانتخابية ومخرجاتها , فلا شرعية الا شرعية الانتخابات النزيهة الخالية من التدخلات او التأثير على ارادة الناخبين , وكل الخطوات التالية مرتبطة بنتائجها , فالحكومة البرلمانية تحتاج الى اكثر من دورة برلمانية والى استقرار العمل الحزبي وازالة هواجس الناس منه , بتغيير ثقافة المؤسسة الرسمية عن الحزبيين وكذلك بتغيير ثقافة الاحزاب ذاتها كي تمارس عملها وفق برامج عملية ملبيّة لطموح الناس .
ما كشفه الملك في لقائه الاخير من المفترض ان يشكل دافعا للحراكات ولاحزاب المعارضة كي تطرق باب السلطة بقوة , فالحكومة ستكون محصلة مشاورات وتوافقات مع الكتل النيابية , ومن يكون خارج الائتلاف الفائز سيكون في حكومة الظل مراقبا ومناقشا ومن ثم سيكون هو الحكومة المقبلة , فالملك قفز عن صلاحياته الدستورية بتعيين رئيس الوزراء واقالته لصالح التوافق الوطني بانتظار تعديل وتطور البيئة الحاضنة واستجابتها لحكومة برلمانية .
لقاء الملك فيه استنهاض جديد للمعارضة الحيوية التي تقرأ الظرف الموضوعي وتربطه بظرفها الذاتي , وتنطلق نحو العمل الحزبي والمؤسساتي بعزيمة برامجية ودون شعاراتية , اثبت الربيع المجاور انها غير قابلة للحياة بعد سطوع حجم التناقض في خطابها السابق واللاحق , فما تقوله المعارضة في المسيرات كلام جميل وعذب ولكنه يفتقر الى ارض الواقع لتطبيقه , ولعل التجربة المصرية تقول ذلك بوضوح شديد .
ما تستطيع البصيرة ان تلتقطه من حديث الملك اكثر بكثير مما هو في داخل اللقاء , فالملك يسير نحو الخروج من تفاصيل السلطة لتكريس مفهوم عميق يظهر المسافة بينها وبين الدولة , فالنظام الملكي هو مظلة الهوية الوطنية الجامعة وهو الحامي لعدم تغول سلطة على اخرى فهو رأس الدولة التي تحمي السلطات وشرعيتها ومشروعيتها ولكنه يسير نحو تكريس السلطة القادمة من شرعية الانتخاب .
هذا الفهم العميق لا يمكن ان ينمو في فضاء محكوم بالصراخ او الهتاف الشارعي , بل يتطلب بيئة سياسية وتشريعية حاضنة تجعل نموه طبيعيا وتجعل من انتقاله من مرحلة الى مرحلة اكثر يسرا وآمانا كي تصبح الارضية جاهزة للانتقال الى الطور الثاني , اي الحكومة البرلمانية المتشكلة من ائتلافات حزبية او من حزب الاغلبية , والبيئة الآمنة يجب ان تكون محتكمة للتوافق الوطني وليس لاماني ومطالب طرف بعينه , يرى في اللحظة الراهنة فرصته لتحقيق نصر بحكم التنظيم الجيد والتاريخ الطويل من العمل الاجتماعي والاقتصادي المحمي من الدولة ذاتها , فالاوطان ليست فريسة يمكن الانقضاض عليها اذا توفرت الفرصة .
البناء الحزبي ينتظر قيام البرلمان القادم بتوفير بيئته الآمنة وتوفير الركائز القانونية والتشريعية لنموه وتخفيف رهاب الشارع منه وينتظر برامج فاعلة تستطيع جذب المواطن لدعمها لانها تقول ما يريده وتبني ما يأمله , والاهم يريد تعديل قانون الانتخاب بما يضمن حزبية القوائم وتوسيع الدائرة الانتخابية حتى يُقبل الناس على البرلمان برؤية ورؤيا شمولية وجاهزة لتنفيذ برامجها .
omarkallab@yahoo.com
الدستور