استقالة ذنيبات بميزان من ذهب
د. محمد أبو رمان
03-12-2007 02:00 AM
يقدّم المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين، عبد المجيد ذنيبات، موقفاً تاريخياً مشهوداً بموافقته المبدئية على طلب المكتب التنفيذي لجماعة الإخوان استقالته من مجلس الأعيان. فهذا الموقف الملتزم، يعكس عناوين عريضة ويتضمن دلالات سياسية ليس فقط على صعيد جماعة الإخوان، محلياً وعالمياً، بل على صعيد العمل السياسي العام في البلاد، وحتى على صعيد العلاقة مع مؤسسات الدولة.بعيداً عن تقييم طلب المكتب التنفيذي للجماعة؛ فإنّ قرار ذنيبات لم يكن يسيراً على أي مستوى من المستويات. فعلى الصعيد الداخلي للإخوان كان هنالك تعبئة نفسية هائلة من التيار المتشدد ضده، وجرت عملية ممنهجة من شخصيات قيادية للإساءة للرجل وتاريخه وتشويه صورته، في استثمار لئيم للظروف السياسية الحرجة، وبتجاهل كامل لدوره ومسيرته وسنوات قيادته لجماعة الإخوان المسلمين خلال السنين السابقة، ولمكانته العالمية كشخصية إسلامية معتبرة يحظى باحترام مشهود.
على الطرف الآخر كان هنالك من خصوم الحركة من يسوّق أنّ قرار الاستقالة رسالة تتعدى العلاقة مع الحكومة إلى مستويات أعلى، وأنّها مؤشر آخطر في مسار التدهور المتسارع بين الطرفين خلال الفترات الأخيرة، وهو التدهور الذي عمل ذنيبات وعدد من القيادات الإخوانية على تداركه صوناً لنموذج التعايش الأردني المتميز بين الدولة والحركة الإسلامية.
كان على ذنيبات أن يتعامل مع معادلة معقّدة ومركّبة؛ بخاصة أنّ المكتب التنفيذي في الجماعة، الذي يمثله حالياً تيار الاعتدال، هو من طلب منه الاستقالة حماية لهذا التيار ودوره في سياق حملة التشويه القائمة ضده من ناحية، ولأنّ ذنيبات تحديداً نال نصيب الأسد من الهجوم الإعلامي والسياسي من قبل المتشددين، في عملية اقرب إلى "الاغتيال السياسي" الواضح من ناحية ثانية، كما أنّ القواعد الغاضبة – بعد هذه الأزمات المتتالية- كانت تدفع باتجاه استقالته من مجلس الأعيان من ناحية ثالثة.
إنّ استقالة ذنيبات من عضوية الأعيان هي حماية لجماعة الإخوان المسلمين ولوحدة الصف الداخلي. فمخالفة قائدها السابق لقرار الجماعة في لحظة يصعب فيها قياس الأمور بموازين عقلانية هادئة ستفسّر بصورة سلبية وقاتمة، وتعزز من الأزمة الداخلية، وسوف يستثمر "المتشددون" ذلك باحتراف شديد، كما استثمروا في الانتخابات النيابية، للإطاحة بتيار الوسط والاعتدال بضربة قاصمة. وللآسف هنالك من كان يراهن من قيادات الحركة ذاتها، أنّ الرجل لن يستقيل! لذلك، وعلى هذه الاعتبارات، لا أبالغ بالقول أنّ قرار الاستقالة هو حماية، أيضاً، لتيار الاعتدال والوسطية في جماعة الإخوان وتأكيد على استمراريته ودوره على الرغم من كل الضربات والصدمات الأخيرة التي صنعتها أزمة العلاقة بين الحكومة والتيار المتشدد.
إلاّ أنّ ما يلفت الانتباه بحق أنّ الرجل على الرغم من قبوله بالاستقالة والالتزام بقرار المكتب التنفيذي فإنّه كان حريصاً على وضع الأمور في نصابها وتحديد مضمون الرسالة المقصودة، وتفويت الفرصة على من "يصطادون بالماء العكر" من جهات عديدة. فقرار تعيين ذنيبات في مجلس الأعيان رسالة عالية المستوى تتضمن تقديراً واعترافاً بدور جماعة الإخوان المسلمين بصورة عامة، ومكانته الوطنية بصورة خاصة، وهي إشارة تتجاوز في دلالاتها ما يموج على سطح العلاقة بين الحكومات والإخوان من أزمات وإشكاليات وأحداث.
في هذا السياق من القراءة يمكن التقاط السلوك الرفيع والحضاري من الرجل، فقد حضر جلسة الثقة، وأقسم اليمين، والتزم بالإرادة الملكية بعضويته في مجلس الأعيان، ثم هو يستأذن بالاستقالة احتراماً لقرار الجماعة، في رسالة واضحة المضمون، لا تقبل التأويل، بالتمييز بين مؤسسة العرش وبين الحكومات، تأكيداً على أنّ احتجاج الحركة يكمن في هذه المساحة من العلاقة مع الحكومة.
الإخوان في فكرهم وخطابهم وتاريخهم يميزون بين علاقتهم بالحكومات والأجهزة التنفيذية المختلفة، وهي علاقة تخضع للمتغيرات، وبين علاقتهم بالقصر والدولة عموماً، وتعلن الجماعة بوضوح أنّ القصر هو مظلة للجميع يحتفظ بمسافة كبيرة عن السياسات والأزمات الداخلية، وعلى هذا الأساس وقّعت قيادة الجماعة ورقة المباديء المعروفة بعد أزمة النواب الأربعة التي تتضمن تأكيد على ثوابت الجماعة الوطنية ومسارها الإصلاحي العام.
الرسالة الأخرى التي يقدّمها ذنيبات للأحزاب السياسية المختلفة تتمثل بالروح الديمقراطية الفذة في ممارسته؛ فقد تحول من قائد لجماعة الإخوان المسلمين إلى عضو فاعل فيها، دون ان يتراجع نشاطه والتزامه، وبقي رمزاً من رموز التيار المعتدل، واحتفظ بالاتزان والأدب في مواجهة حملة التجريح والطعن (من الخلف)، ثم لمّا تعرّض لاختبار التكريم معنوياً ومادياً، الذي تعارض مع موقف جماعته، التزم بقرار الجماعة متجاهلاً ومرتفعاً عن حظه الشخصي في ذلك، مقدّما درساً جيداً في الحياة السياسية المحلية بأنّ الالتزام بمباديء ومواقف الحزب السياسي ينبغي أن يبقى متقدماً على الحظوظ الشخصية وشهوة القيادة والسلطة.
بتقديري استطاع ذنيبات أن يخرج بذكاء شديد من مأزق وأن يحظى باحترام الأصدقاء، والخصوم إلاّ أولئك الذين يخشون من هذا النموذج ما يمثله من واقع مشهود يدحض اتهاماتهم ودعواهم، كما دحضدت الانتخابات النيابية قصة الصفقة المزعومة بين تيار الوسط والحكومة، فكانت خسارة الوسط بمثابة إعلان براءة ساطعة له من تلك الفرية، ولربك في خلقه شؤون!