إنسان في القرآن عند العقاد
أحمد يوسف
02-12-2007 02:00 AM
ربما كان من أفضل الأبحاث التي تطرقت الى مفهوم الانسان و دوره و مكانته هي تلك التي قدمها المفكر الكبير عباس محمود العقاد ، فطرح في كتابه ( الإنسان في القرآن الكريم ) مجمل الأسئلة التي دارت في ذهن ( الإنسان ) منذ القدم و على مر العصور ، و حاول تقديم الإجابة على تلك الأسئلة استنادا الى القرآن الكريم ،
مع التنبيه الى أنه لا وجود لجواب على هذه الاسئلة في غير ( عقيدة دينية ) تجمع للإنسان صفوة عرفانه بدنياه و صفوة ايمانه بغيبها المجهول . و قطعا فإن أي فكر أو أيديولوجية انسانية وضعية ستعجز عن فهم ( الانسان ) بكافة جوانبه و أبعاده ، فضلا عن عجزها عن تحديد الدور الوظيفي لهذا الانسان الذي خُلق من أجله و عجزها عن تحديد علاقته مع الكون .
ينقسم الكتاب الى بحثين ( أو كتابين ) ، و سأتناول في موضوعي هذا الكتاب الأول ( الانسان في القرآن ) ، و سأتطرق الى النقاط المذكورة فيه بإختصار ،
و الان اذكر تلك الاسئلة ( كما ذكرها العقاد ) ، و هي :
- من هو الانسان ؟
- ما مكانه من هذه السيارة الأرضية بين خلائقها الأحياء ؟
- ما مكانه بين ابناء نوعه البشري ؟
- و ما مكانه بين كل جماعة من هذا النوع الواحد ، أو هذا النوع الذي يتألف من جملة أنواع يضمها عنوان ( الانسان ) ؟
لقد أعتبر العقاد بأن معرفة الانسان لإجابات هذه الاسئلة ستضمن له النجاح و الاستمرارية ، و أن الجهل بها سيقابله فشل ذريع يعود على الانسان بنتائج كارثية .
للإجابة على هذه الاسئلة قدم العقاد مجموعة من النقاط و التي تُشكل في مجملها نظرة القرآن الكريم للإنسان ، و بالتالي فإن هذه النظرة تُقدم إجابات شافية على تلك الاسئلة أو على أي سؤال آخر قد يطرأ على الأذهان ،
و هذه النقاط هي :
- المخلوق المسؤول ،
كان لإرتفاع القرآن بالدين من عقائد الكهانة و الوساطة و الالغاز الى عقائد الرشد و الهداية و إعمال العقل و الفهم الأثر الكبير في تصحيح صورة الانسان ، هذا المخلوق المسؤول ،
فقد بين القرآن الكريم أن الانسان هو أكرم الخلائق نظرا لتفرده بـ ( الاستعداد ) للتكليف ، هذا الاستعداد ( الذي تفتقر اليه باقي المخلوقات ) جعل الانسان يتذبذب بين نقيضين هما : الكمال و النقص ، و الخير و الشر ، و يقول العقاد :
( ان الجمع بين النقيضين في الانسان ينصرف الى وصف واحد ، و هو وصف الاستعداد الذي يجعله أهلا للترقي الى أحسن تقويم و أهلا للتدهور الى أسفل سافلين ) .
و كون الانسان مناط تكليف فهذا يتطلب بالضرورة أنه مسؤول عن عمله سلبا أو ايجابا و محاسبا عليه .
- الكائن المُكلف ،
بين القرآن الكريم مكانة الإنسان ، و وَضَعه في أشرف منزلة في ميزان الفكر و في ميزان الخليقة الذي توزن به طبائع الكائن بين عامة الكائنات ، و انتشله من قاع الصور الفلسفية التي حاولت تصوير الانسان بغير صورته و وضعه في غير مكانه ، و يقول العقاد عن ( الانسان ) في ذلك :
( هو كائن أصوب في التعريف من قول القائلين انه " الكائن الناطق " و أشرف في التقدير ، و هو أصوب في التعريف من " الملك الهابط " و من " الحيوان الصاعد " و أشرف في التقدير من هذا و ذاك ، فليس " الكائن الناطق " بشيء إن لم يكن هذا النطق أهلا لأمانة التكليف ، و ليس " الملك الهابط " منزلة تهدى الى طريق الصعود و الهبوط ، و ليس " الحيوان الصاعد " بمنزلة الفصل بين ما كان عليه و ما صار اليه ، و لا بمنزلة التمييز بين حال و حال في طريق الارتقاء ،
إنما الكائن المكلف شيء محدود بين الخلائق بكل حد من حدود العقيدة أو العلم أو الحكمة ، و حادث من حوادث الفتح في الخليقة موضوع في موضعه المكين بالقياس الى كل ما عاداه ) .
و قد بين القرآن أن لا تعارض بين التكليف و إعمال العقل و المنطق في أي حال من الأحوال ، بل على العكس تماما حيث أن التاريخ البشري لم يعرف قبل الاسلام رسالة تُميز الانسان بخاصة التكليف و اعداده لخطاب العقل و بينات الاقناع .
- روح و جسد ،
مع اقرار القرآن الكريم لحقيقة أن الانسان هو روح و جسد ، و على اعتبار أن عقيدة الروح هي إحدى العقائد الغيبية في القرآن ، و بما أن العقائد الغيبية أساس عميق من أسس التدين ، فإننا نجد أن القرآن كان المنهاج الوحيد الذي لم يُوجد تعارض بين الايمان بالعقائد الغيبية و العقل ،
فالعقائد الغيبية في القرآن لا تُعطل عقول المؤمنين بها و لا تُبطل التكليف في خطاب العقل ، و هنا يؤكد العقاد على أن الروح و الجسد في القرآن الكريم ملاك الذات الانسانية ، تتم بهما الحياة ، و لا تنكر احداهما في سبيل الآخر ، فلا يجوز للمؤمن بالكتاب أن يبخس للجسد حقا ليوفي حقوق الروح ، و لا يجوز له في المقابل أن يبخس للروح حقا ليوفي حقوق الجسد ، و لا يُحمد منه الاسراف في مرضاة أي طرف من الطرفين .
- النفس ،
و هنا أبدع العقاد ( كعادته ) في تحليل مفهوم ( النفس ) و بين أوجه الخلاف بين ( نفس ) الفلاسفة و ( نفس ) القرآن الكريم ، و بيّن الفرق بين النفس و الروح و العقل ، و ارتباط كل منها بـ ( الانسان ) ، و هنا يقول العقاد :
( فجملة هذه القوى من النفس و العقل و الروح هي " الذات الانسانية " ، تدل كل قوة منها على " الذات الانسانية " في حالة من حالاتها ، و لا تتعدد " الذات الانسانية " بأية صورة من صور التعدد لانها ذات نفس أو ذات روح أو ذات عقل ، فإنما هي إنسان واحد في جميع هذه الحالات ) ،
قدم القرآن الكريم عرضا للنفس في جميع قواها و حالاتها ، فذكر القرآن الكريم – النفس اللوامة و النفس الملهمة و النفس الأمارة بالسوء و النفس المطمئنة و النفس البصيرة ، ثم جاء العقاد ليختم موضوع النفس بهذه الخلاصة :
( لعلنا نفقه من هدى القرآن الكريم ترتيب هذه القوى في الذات الانسانية ، و عمل كل منها في القيام بالتكليف و تمييز الانسان بمنزلة الكائن المسؤول ، فالإنسان يعلو على نفسه بعقله ، و يعلو على عقله بروحه ، فيتصل من جانب النفس بقوى الغرائز الحيوانية و دوافع الحياة الجسدية ، و يتصل من جانب الروح بعالم البقاء و سرّ الوجود الدائم و علمه عند الله ، و حق العقل أن يُدرك ما وسعه من جانبه المحدود ، و لكنه لا يدرك الحقيقة كلها من جانبها المطلق الا بإيمان و إلهام ) .
- الأمانـة ،
كان ذكر ( الامانة ) في القرآن الكريم يُفيد دائما معنى التبعة و العهد و المسؤولية ، و حتى عندما ذُكرت بمعنى الوديعة المالية ( كما في سورة البقرة ) فهي لم تخرج عن المعنى العام للأمانة و هو الحق و الفريضة و كل ما يرعاه الإنسان من عهد و ذمة ،
اجتماع الفطرة و العقل و الادارك عند الانسان دون باقي المخلوقات كان السبب في قبوله لحمل الأمانة ( التكليف ) مع علمه بتبعات هذا الحمل ، قال تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السموات و الارض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) ،
ظلوما – لأنه يتعدى الحدود و هو يعرفها ، و جهولا – لأنه يتعدى تلك الحدود و عنده أمانة العقل التي تهديه الى معرفة تلك الحدود ، فلا عذر له في ( جهلها ) .
- التكليف و الحرية ،
و هنا نبّه العقاد الى الخطأ الكبير الذي يقع فيه العديد من المجادلين في قضية القدر و قضية الايمان و قضية التكليف و الجزاء ألا و هو إهمالهم لشرط الطاعة و إقتصارهم على شرط الحرية فقط ، مع العلم أن من مقتضيات التكليف وجود الحرية و الطاعة معا ،
و هذا الباب تاه فيه الكثيرون ، لأن اقتران الجزاء بالحرية المطلقة فقط دون شرط الطاعة هو استحالة عقلية ،
ثم يُشير الى الفرق بين الايمان الذي يُلغي العقل و بين الايمان الذي يعمل فيه العقل غاية عمله ليصل الى الايمان ، ثم يطرح قضية هامة في معرض حديثه عن العقل و الايمان ، و هي هل يستطيع العقل أن يعلم بضرورة الايمان ؟
يُجيب العقاد عن هذا التساؤل بكل براعة حيث يقول :
( الموجود الذي يصُح أن نؤمن به هو موجود كامل أبدي ليس له حدود ، و الموجود الذي ليس له حدود لا يُحيط به إدراك العقل المحدود ، و بالتالي فإن النتيجة العقلية لهذه الحقيقة هي إحدى اثنتين :
إما إنكار جُزاف ، و إما تسليم بحقيقة تفوق إدراك المعقول ) .
ثم يُبين أن الانكار يُعطل العقل و يوقعه في نقيضين ، حيث يكون الانكار في هذه الحالة معناه أن سبب الإيمان الوحيد هو نفسه سبب الانكار الوحيد .
و بالنتيجة فإن العقل الذي يزيد عليه الايمان هو العقل الذي خاطبه القرآن بالتكليف .
- أسرة واحدة ،
فيما تاه العلماء الغربيين في ( تصنيف ) الانسان ، هذا النوع الحيواني الذي ارجعه البعض الى سلالة القرود ، فضلا عن تقسيمه الى طبقات حسب لونه ، جاء القرآن الكريم ليضع الانسان ( علما و دينا ) في موضعه الصحيح ، و ذلك حين قدمه على أنه ابن ذكر و أنثى ، و أنه ينتمي بشعوبه و قبائله الى الاسرة البشرية التي لا تُفاضل بين الاخوة فيها بغير الايمان و العمل الصالح .
و يحسب البعض للوهلة الاولى أن تعدد القبائل و الشعوب هو من باب الافتراق و التباين ، إلا أن هذا التعدد هو باب التكامل ، هذا التكامل الذي يسعى بالنتيجة الى وحدة بني الانسان ، و هذه الوحدة في صلة الانسان بالانسان تُساعد على زيادة الصلة بين الناس و ربهم الذي ساوى بينهم في الانسانية و لا يتفاضلون بين بعضهم البعض الا بالتقوى و العمل الصالح .
قال تعالى : ( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى ، و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ) .
- آدم ،
ثم جاء القرآن الكريم ليقدم لنا قصة أدم ، قصة الانسان الأول الذي خُلق من تراب ، و ارتقى بالخلق السوي الى منزلة العقل و الارداة ، و هنا يقول العقاد :
( هذه قصة نشأة آدم في القرآن ، و هي إحدى قصص الخلق و التكوين ، و في هذه القصص جميعا من أمر الغيب ما هو حق الايمان ، و فيها من أمر الحياة الانسانية ما يسعه خطاب العقل ، و يتقبله بعلم منه يوافق الايمان ، و هو العلم بقيم الحياة أو العلم " بالقيم " العليا في حياة الانسان و سائر الأحياء ،
و لباب القيم جميعا أن الفضيلة العليا إرادة و تجربة ، و ليست منحة يبطُل فيها التصرف و يمتنع فيها التميز ) .
ثم يذهب العقاد في الكتاب الثاني الى استعراض عدد من القضايا اذكر منها :
- الانسان في مذاهب العلم و الفكر .
- الانسان و مذهب التطور .
- الدين و مذهب داروين .
- الانسان في علوم النفس و الأخلاق .
- مستقبل الانسان في علوم الأحياء .
و أخيرا يختم العقاد كتابه بطرح هذا السؤال الهام : هل صحيح أن القرآن يُلقي بالإنسان غريبا منقطعا في القرن العشرين ؟
ثم يجيب على هذا السؤال و يقول :
( الجواب الذي لا تردد فيه هو أن القرآن يضع الانسان في موضعه الذي يتطلبه ، فلا تسعده عقيدة أخرى أصح له و أصلح من عقيدة القرآن ، لأن عصر العلاقات العالمية لا يتطلب " مواطنا " أصح و أصلح من الانسان الذي يؤمن بالأسرة الإنسانية ، و يستنكر أباطيل العصبية و مفاخر العنصرية ليعترف بفضل واحد متفق عليه في كل أرض و بين كل عشيرة آدمية و هو فضل الاحسان في العمل و اجتناب الإساءة ) .
أما موضع الانسان بين خلائق الارض و السماء أنه المخلوق المميز الذي يهتدي بالعقل فيما علم ، و بالايمان فيما خفي عليه ، و موضعه من بني آدم و حواء أنهم أخوة من عشيرة واحدة ، اكرمها من كرم بما يعمل من حسن و يجتنب من سوء ، و أفضلها من له فضل بما كسبه و ما اتقاه ، لا يُدان بعمل غيره ، و لا ينجو من وزره بغير عمله .
yousco1@yahoo.com