ادوارد عويـس "قلعة الضاد"
د. محمد العناقرة
03-01-2013 09:01 PM
غياب الكبار محنه في كل الظروف، ولكنه في الزمن العصيب يتعدى الحزن الخاص والألم الشخصي إلى صميم المصير.
ادوارد عويس مفكر وشاعر أردني حمل لقب شاعر الأردن الكبير والملقـّب بقلعة الضاد في الاوساط الأدبية الأردنية حيث كان اول من اطلق عليه هذا اللقب صحافة جامعة اليرموك. نذر ادوارد عويس عمره للإبداع في مجالات العلم والفكر واللغة والشعر، وهو صاحب نظرية العروض اللوني ونظريات فنية تقنية في علوم اللغة العربية والخط العربي. واحد معلمي مرحلة الرعيل الاول الذين قضوا جلّ عمرهم اخلاصاً لرسالة التعليم فانشأوا اجيالاً واعية ومثقفة، ومن المؤسسين للحداثة الشعرية في الأردن واحد ابرز الأدباء الذين رفدوا الحركة الثقافية العربية بغزير انتاجهم.
دخل ادوارد عويس كل بيت في الاردن عن طريق قصائده المنشورة في كتب المناهج المدرسية والتي حفظها اطفال الأردن وغنوها نذكر منها النشيد الذي عُرف من خلاله:
وطني الأُردنُّ رسمْتُ غَدِي وحفـظْــتُ بهـاءَكَ لـلأبَـــدِ
وطنـي الأردنُّ أنا الأمـــلُ
أَزْهُــو بعيونِــكَ تــكتـحل
في تُرْبِكَ يا أَحلى بَلـَدِ
يَمْتَـدُّ بقلبيَ بُسْــــتانا
بِيدي بِيدي يَحلو العملُ
غاراً للنصــرِ وريحانا
ولد ادوارد عويس في مدينة عجلون شمال الأردن عند الساعة الثامنة من مساء يوم الثلاثاء 3/11/1936 م، تلك المدينة العريقة ذات الأهمية التاريخية الاستراتيجية العسكرية على مدار مراحل التاريخ. وسمي بهذا الاسم "ادوارد " نسبة الى ابن ملك بريطانيا الذي تنازل عن المُلك لأخيه الأصغر جورج حيث ربطت أسرته علاقة مع امرأه تقطن جرش في ذلك الزمان تدعى "مس باطلن" وهي من الاسرة الحاكمة البريطانية. ولما جاء على لسان مس باطلن من قصة مؤثرة بأن العادات البريطانية تمنع الملك من الزواج بغير بريطانية وأن ادوارد كانت تربطه عاطفة قوية بفتاة يونانية، فتمسّك بها وتنازل عن العرش لأخيه، ومن هنا جاءت تسمية ادوارد الشاعر.
عاش ادوارد عويس شطراً من طفولته المبكرة في فلسطين حيث كان والده يعمل هناك، فسكن في بيسان ومنطقة جسر المجامع وسمخ وطبريا، وتركت هذه السنوات اثراً عميقاً في حياته .
ظهر لادوارد في مراحل عمره المبكرة حضور اجتماعي متميز في مقهى مدينة عجلون أيام الحرب العالمية الثانية من خلال إلقائه الاشعار هناك على مسامع من هم أكبر منه سناً، وكان اثناء فترة الحرب يعمل على حفظ موجز الأخبار من جهاز المذياع الوحيد في البلدة آنذاك في ذات المقهى ليقوم بنقاشها واخبار جده بها.
نشأ في عجلون ودرس فيها، ونظراً لنضجه الفكري فقد تم ترحيله ليتجاوز دراسة بعض المراحل الدراسية منتقلاً الى المراحل الاعلى مباشرة. وأكمل دراسته الثانوية عام 1957 م من مدرسة عجلون الثانوية للبنين، وكان لتلك المدينة أن تشكّل بجغرافيتها تضاريس حياة الشاعر.
إلتحق بسلك التعليم بعد الثانوية العامة عام 1958 ليعمل مدرساً في وزارة التربية والتعليم لمدة تقارب الثلاثين عاماً، فكان من معلمي مرحلة الرعيل الأول. واصل اثناء عمله في سلك التعليم دراساته الجامعية فحصل على شهادة الليسانس في الأدب العربي عام 1972 م من جامعة بيروت العربية، وحصل على شهادة الدبلوم العام في الدراسات العليا قسم اللغة العربية وآدابها من جامعة القديس يوسف \كلية الآداب والعلوم الانسانية عام 1979 \1980 م. وكان مهتماً بمتابعة تعليمه إلا انه ترك لبنان على أثر الحرب.
عمل في قرية "جفـّين" إحدى قرى محافظة اربد وعاش فيها أربع سنوات، ربطه تواجده فيها بعلاقه قويه مع الباشا عبدالله الكليب الشريدة الذي كان يتردد على جفـّين في ذلك الزمان .وسكن قرية "جديتا" في ذات المحافظة وعمل فيها لمدة ثلاث سنوات، كما درّس في "عين جنا " وعجلون.
مسيرة ادوارد عويس حافلة بالأدب والفكر والشعر، حيث بدأ كتابة الشعر وهو في الصف الرابع الابتدائي، وكانت بداياته في الظهور كاسم أدبي من خلال علاقته بالإذاعة الأردنية آنذاك في الفترة التي ابتدأت أواخر المرحل الابتدائية مروراً بالإعدادية.
كتب في موضوع الحياة والوجود كقضية غير متجزئة لتجد نصه الادبي الزاخر يحتوي الفلسفة والسياسة والمرأة والوطن في مضامين متداخلة ضمن فلسفته للحياة، وسجّل احداث المرحلة شعراً فكتب في قضايا الأمة العربية بشمولية، ودَرس الأحداث دراسة معمقة وقدّم تصويراً وافياً للموقف. وكتب للأطفال الاغاني والاناشيد، والحواريات القصيرة والمسرحيات الشعرية، كما كتب باللغة المحكية قصائد وأغنيات.
ظهر أول نشاط ادبي له في مرحلة الطفولة من خلال مسرحيته "وفاء العرب" التي تم عرضها في ذلك الزمان بموافقة الحاكم الاداري كايد العتوم في عجلون. تلاها أن اصدر عويس جريدة تكتب بخط اليد وتوزع على المدارس والمؤسسات والدوائر. انضم الى رابطة الكتاب الأردنيين فكان عنصراً فاعلاً فيها، وكان عضو اتحاد الأدباء والكتّاب العرب.
خصّ الشاعر بناته الأربع بدواوين شعرية تحمل أسماءهن ديوان ريادة، وديوان رواء المساء، وديوان سوار الأغنيات. وخصّ ابنه بملحمة شعرية، وجاء اهداء دواوينه الى زوجته نهيل التي كانت مصدر الهام بدا ظاهراً في شعره.
وللشاعر قصائد وأناشيد تتغنى بمجد الأردن وجماله منها ما يدرّس في كتب المناهج المدرسية الأردنية وترك أيضاً إرثاً لم ينشر بعد نذكر منه مخطوطات منها: ديوان اجراس قبل الرحيل، و ديوان ليالي القمر ، وديوان أغنيات الى يارا، وديوان في الشعر الشعبي، و مسرحيات شعرية غنائية، ومخطوطه في الفلسفة وعلوم اللغة.
وشكّل شعر ادوارد عويس مدرسة في الفكر الفلسفي، سجّلت إضافة نوعية للفكر الإنساني على مر التاريخ، وصاحب اكتشاف غير مسبوق في اوزان الشعر العربي إنها نظرية العروض اللوني وصاحب نظريات فنية تقنية في علوم اللغة العربية والخط العربي. وترجمت بعض أشعاره إلى لغات اخرى.
اتسمت حياة ادوارد عويس بشيء من المعاناة فكانت طفولته شاقة وبالرغم من هذا فقد امتازت فترات حياته التالية بالنشاط الاجتماعي والادبي بوتيرة عالية وبشكل ملحوظ فبرز كشخصية اعتبارية اجتماعياً في شمال الاردن وكان بيته في عجلون محجّة لطلبة الجامعات دارسي العربية، وظهر جلّ نشاطه الأدبي في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. وتمثل الجزء الباقي من حياته في ظروف حياة متشابكة بالصوفية الإبداعية التي اخذته ليخلد الى اجواء المعاناة التي امتزجت بالإبداع، فجاء شعره متحدثاً عنه وعن حياته.
يقول الدكتور ناصر الدين الأسد: والشاعر إدوارد عويس يمتاز في حياته وتعامله مع أصدقائه ومعارفه بصفاء النفس ووضوح الفكر والمشاعر والمباشرة في التعبير عنها. وقد تمثلت هذه الصفات النفسية والفكرية والتعبيرية في شعره الذي اطلعت عليه، وهو شعر جاء أكثره في الغزل وفي الوطنيات، وما أن يبدأ القارئ قراءة القصيدة حتى ينساب معها ويتسلسل فلا يقف إلا في نهايتها، وذلك لما تتميز به أبياته من وفرة موسيقية ومن سلامة في اللغة ومن بُعْدٍ عن التعقيد والغموض والتعمية. ومجال الاستشهاد على كل ذلك واسع ولكن حسبي أن استشهد بقوله في قصيدته "أمطار في الصيف" (ديوانه: ريادة ص37 – 40):
أشتاقُ إليكِ ويغمُرني
فيضٌ يمتدّ فينحسر
وتدور الأرض فأرقب أن
يتساقط في صيفي مطر
رحلتْ أيامي في عينيكِ
وطال النأيُ ولا خَبَرُ
إلى آخر الأبيات
والشاعر حريص على فصاحة لغته وسلامتها وعلى صحّة أسلوبه وتراكيبه اللغوية، وتمثل ذلك في شعره الذي على الشطرتين وفي شعره الذي على التفعيلة الواحدة".
أما الدكتور خالد الكركي فقال في تأبين ادوارد عويس: " وأمس، واليوم، مانسيناه، وعهدنا به قريب، وأمس، كنا في انتظاره عائدا الى البيت ، قامة في علو عجلون ، ووجهاً في بهجة ليلها وشِعراً في غموض خوابيها وزماناً آخر يطلع من القلعة والشجر و النساء، و بهجة شموسها ، ووعداً بزمان أردني جديد يُطعم الناس فيه من جوع، ويأمنون من خوف...
هذا هو زمانك القادم، مثل قصائدك التي حملّتها الحداثة، والريادة والرواء، زمان ندوّن على صفحاته بالايقاع والصورة زهو الوطن وأحزانه وحكايات عشاقه.
واليوم أسالك أنت: هل لك من سفر المنية أوبة !!
لقد سبقت أيّها المعلم، وبقينا هنا، حرّاس حلم كنت تطبق جفنيك عليه حتى لا يغيب".
وتحدث الدكتور محمود مهيدات في تأبين ادوارد عويس قائلاً: "هكذا هم العظماء الذين ادركوا معنى الحياة والعظماء اطول الناس اعماراً وان قلَت على ظهر الدنيا ايامهم لأنهم يحملون على عواتقهم احجار هياكل الخلود".
أما الدكتور سمير قطامي فقد وصف ادوارد عويس قائلاً: "شاعرا ملأ الجو بأشعاره السياسية والوطنية ابن عجلون .. شامخاً شموخ جبالها، عميق الجذور كآثارها الخالدة، معطاءً كزيتونها، طيب النفس كهوائها، صلب المواقف كصخورها.. فكان لعجلون ان تعطي ببيئتها دوراً قوياً في تشكيل شخصية المبدع. شاعر نذر نفسه لقضايا وطنه وأمته، مؤمناً بالحرية والعدل والإخاء، غنى للأرض والانسان والوطن والحرية، اعذب الشعر وأصدقه، وبكى حال أمته. برحيل ادوارد عويس فقدنا سيفاً قاطعاً وقلماً جريئاً ورمزاً وطنياً وقلباً نقيا"ً.
أما محافظ عجلون السابق علي الشرعه فقد وصفه قائلاً: "لقد كان شاعرُنا الراحلُ كبيراً ....... في داخل نفسه وكان كبيرا .. في ولائه وإخلاصه لوطنه وأمته .. وكان كبيرا .. في عطائه لأجيال عديدة تتلمذت في مدرسته .. وكان كبيراً .. في غزارة إنتاجه وشعره .. وكان كبيراً .. في تماهيه مع روعة الطبيعة التي تجسد حسن إبداع ربِّه. لقد كان كبيراً في كلِّ حياته ومن الصعب أن نفيَ الكبارَ حقهم".
ويقول عبدالله ابورمان في إدور عويس: "هو موهبة مبدعة خلاقة وكل من يقرأ شعره ونتاجه بعين المتأمل ووجدانه قادر ان يكتشف جانباً من جوانب الإبداع والتميز، وملامح من سماته الشخصية وسجاياه".
ويذكر الأستاذ احمد العيسى رئيس الهيئة الإدارة في اتحاد أدباء وكتاب دولة الإمارات العربية المتحدة ادوارد عويس قائلاً: "الشاعر الكبير ادوارد عويس لم تغب عنا ولم يغيب ليلك شعرك عن قلوبنا، ولم يغب النشيد وانت من قرأ الحياة واسكن نفوسنا. هي تلك الانسيابية المفعمة بالحب والروح بعفوية وتلقائية روحك ايها الجميل، وأنت تأخذنا الى صدرك النازف محبة وابتسامات.
ان لغة الراحل العزيز هي لغة محرّضة للقفز والركض والنبش والدخول الى عمق القصيدة، وهي مكان خالد للحروف الصادقة الخارجة دون تكلّف وانشائية، ادوارد عويس باقِ فينا ولم يرحل".
ويصف الأستاذ محمد نصيف الشاعر العراقي شعر ادوارد عويس قائلاً: "عندما تتأمل شعر ادوارد عويس تحس بأنك تقف أمام ركيزة متأصلة من ركائز الشعر العربي وتدرك أنك أمام فارس أصيل انصهر في قضايا أمته العربية وألزم نفسه بأن يكون الناطق الرسمي بتطلعاتها وآلامها التي كانت ترتسم في حروفه وكلماته المتدفقة من اعماق نفسه الصادقة والمخلصة لرسالة أمته الخالدة".
أما الكاتب المغربي ناجي أمين يقول: "ادوارد عويس ايها الغائب الحاضر فينا .. غادرتنا في صمت واباء .. غادرتنا في حكمة الانبياء .. كما الاشجار تحيا واقفة وتموت واقفة ... كما الشهداء الابرار والصديقون .. يغادرون لكنهم يعلمون أن لهم في قلوب محبيهم سكنا وان اسماءهم منقوشة في ذاكرة الأمم على طول المدى".
ويقول الكاتب الجزائري محمد شعوفي في ادوارد عويس: "هكذا يكون العظماء يتركون بصماتهم تؤرخ للأمة لتوجهها نحو ما ينفعها، أعطيتم من أنفسكم ما ملأ الفراغ بعدكم، ادوارد عويس رحل عنا بالجسد ولكن روحه باقية تسري فينا وتخاطب وجدان كل عربي، وكأن بها تراقبنا في خطواتنا وتصرفاتنا، و بحكمته وتوجيهاته تنبعث فينا روح النهضة التي كان من روادها ليستقي الشباب من همته نيران الثورة العلمية والأدبية الى تحرير القدس وعودة الأمة الى سابق نهضتها ديناً وعقيدة وعروبة.
داهم المرض ادوراد عويس عام 2006، فأرسل من قبل جلالة الملك عبدالله الثاني المعظم للعلاج في لندن، فاكتسب الشفاء على أثرها ثم عاوده المرض بعد عامين فرحل عن هذه الدنيا في 27/7/2008م، ليدفن حيثما اراد على مدخل مدينة عجلون التاريخية.
تكريماً للراحل تم تسمية احد شوارع دابوق\عمان باسمه، واحد شوارع مدينة عجلون ايضاً وستقوم محافظة عجلون بالتعاون مع البلدية بتصميم نصب تذكاري للراحل على مدخل مكتبة عجلون العامة بالاضافة الى انه سيتم اطلاق اسمه على القاعة الثقافية الرئيسية لمدينة عجلون مهد ميلاده فور اتمام بنائها.
إن رجلاً هذا سجلّه، لا تُمحى صورته من أذهان محبيه وعارفيه، ولا ينقطع ذكره، بل يستمر بقدر ما يظل مثله حياً في محيطه، فقد كان الراحل وفياً لوطنه، ولعائلته، ولعلمه على أكمل ما يكون الوفاء. رحمك الله يا ادوارد لذوبك وأصدقائك ومحبيك وتلامذتك وناقديك العزاء فيما تركت من رسالة محصلتها عطره.