هذه المقالة لا تريد ان توجه نقدا قاسيا لمن يرد ذكرهم في الحديث عن ظاهرة بدأت منذ عقد ونصف العقد، وأخذت في الاتساع، واختلطت فيها السخرية السوداء، وبات من الصعوبة على المراقب ان يعرف أين الحقيقة وأين التضليل، ولا أين الجدية وأين السخرية.ربما كانت الحرب التي شنت على العراق عام 1991، بدءا من الاعداد لهذه الحرب ومرورا بالشراسة التي طبعت دول التحالف وانتهاء بالآثار المدمرة التي ألحقت الأذى والخراب بالعراق والعراقيين.
كانت الفضائيات العربية - الرسمية والأهلية - قد بدأت في احتلال شاشاتنا التلفزيونية، وطغيان البرامج السياسية على غالبية ساعات البث، فمن لقاء الى لقاء، ومن ندوة الى ندوة، ومن استضافة الى استضافة، ووصف ضيوف هذه اللقاءات والندوات والاستضافات بأنهم محللون استراتيجيون وخبراء مطلعون على تفاصيل التفاصيل وقادة عسكريون متقاعدون بعد خدمة طويلة لم يخوضوا خلالها حربا حقيقية ولا هم على دراية بآخر ما وصلت اليه تكنولوجيا التسليح، ومع هذا فان وجوههم ورؤوسهم وأصابع أيديهم ومحفوظهم الغني بالنظريات والتكتيكات والاستراتيجيات يغنيهم عن ان يستعينوا بورق او بأرقام او بمعادلات، تؤيد وجهات نظرهم فيما يعرض عليهم من تساؤلات عامة ودقيقة، ثم ينتهي اللقاء او الحوار او الندوة دون ان يحصل المشاهد على وجهة نظر علمية او خارجة عن كونها مجرد اكياس خيش مملوءة بالكلام المجاني الذي - كما يصفه الاشقاء اللبنانيون - لا جمرك عليه! واثناء الاعداد الامريكي والبريطاني لغزو العراق واحتلاله كان هؤلاء المحللون الاستراتيجيون والخبراء العسكريون يحتلون مساحة واسعة في فضائياتنا العربية ووصلت عبقريتهم في التحليل وقدراتهم على تقديم النتائج درجة من الثقة بالنفس لا تقترب منها درجات الاخرين الذين كانوا يخططون للغزو والاحتلال ويتحدثون بتواضع حقيقي يقف وراءه ادراكهم الحقيقي لقوتهم العسكرية والتسليحية وتوظيف كل ما تعلموه كعسكريين محترفين .
اقل صفة كانت تطلق على المحللين الاستراتيجيين والعسكريين المحترفين والسياسيين والاقتصاديين الذين كانت تستضيفهم الفضائيات العربية هي كل ما سبق من صفات ومع ان الصورة كانت بالغة السخرية بالنسبة لكل من يمتلك وعيا او مخزونا من المعلومات او متابعة يومية من خلال الاطلاع على تقارير واراء المحللين والباحثين الاستراتيجيين الا ان هذه الفضائيات وهؤلاء الضيوف الدائمين في برامجها واصلت المهمة المسخرة التي كشفت عن خواء حقيقي يعاني منه وطننا العربي في ان يكون له باحث استراتيجي حقيقي ومحلل استراتيجي حقيقي ويضيف الى هذا كله المئات من الاسماء التي كانت تقدم لنا على انها لخبراء في الاقتصاد او في الحركات والجماعات الاسلامية .
قد لا نبالغ اذا قلنا ان أي قطر عربي - صغير او كبير- لديه من هؤلاء الخبراء والاستراتيجين اكثر مما لدى الولايات المتحدة او بريطانيا او دول الاتحاد الاوروبي مع فارق عميق وحقيقي في ان لدى الخبراء الاستراتيجيين والمحللين من تلك الدول درجة من الوعي والقدرة على التحليل والمتابعة اليومية لكلما يصل اليهم او يصلون اليه فالمعلومة بالنسبة للاخرين هي القاعدة الاولى للبحث والتحليل وتقدير النتائج مقرونه كلها بتواقيع المتميزين الذين يعنون كل كلمة يقولونها في حين ان باحثينا ومحللينا وخبرائنا الاستراتيجيين لا يحتاجون الى أي عون من ابحاث او مؤلفات او مراكز دراسات.
ذات مرة كتب احد الخبثاء حول هذه المسألة واشار بطريقة ساخرة الى اننا في الوطن العربي أمة ولود، تقدم كل صباح عشرات الاستراتيجيين ومئات المطربات ومئات الراقصات ومئات المطربين، وان فضائياتنا تبث الينا صورة مشوهة عن الطرب العربي والرقص الشرقي، وتمطرنا كل طالع شمس بخمس مطربات وعشرة مطربين وثلاثين راقصة، يحرصون جميعا على ان يقدموا اعمالهم التافهة دون عائق من لباس، فبات التعري وسيلة لنجاح المطربة او الراقصة وهي تتمايل نصف عارية من اعلى جسدها ونصف عارية من اسفل جسدها، هذا مع اشتراط الفضائيات والمنتجين العرب- في غالبيتهم- ان تكون المطربة او الراقصة جميلة جدا لان العين هي التي تستمتع وليس الاذن التي تسمع.
اعرف ان الكثيرين من محللينا وخبرائنا وباحثينا الاستراتيجيين سيتهمونني بالجهل لانني لا استوعب ما يقولون، ولا اقف مع الخلاصات الموضوعية لقدرتهم على ان يقرأوا الحاضر والمستقبل كما تقرأه امرأة دجالة في كف يد او في بقايا فنجان قهوة. واعتقد ان وطنا لديه كل هذه الالاف من الاستراتيجيين والمطربات والمطربين لا يؤكد لنا سوى ان هؤلاء عبء حقيقي ومخادع للمشاهد العربي، وعندما يقال عن باحث او محلل امريكي انه استراتيجي فانك لا تستطيع ان تشير الى اكثر من عشرة او عشرين واحدا يتابع الناس اراءهم وتحليلاتهم وتستشيرهم دولهم في المنعطفات الخطرة، وينسحب هذا الكلام على الولايات المتحدة كما على غالبية الاقطار العربية، بينما تستطيع ان تختار أي قطر عربي وتملأ الصفحات باسماء عباقرته الاستراتيجيين، فتلك اقطار وشعوب وامم مختلفة عنا في كوننا الامة المولود، القادرة على ان تقدم لك الاف المحللين بالسهولة التي يقذفون بها آذاننا ووجوهنا وعيوننا بالاف الراقصات الاستراتيجيات والاف المطربين الاستراتيجيين.
kmahadin@hotmail.com