الممارسة السياسية الراقية ثمرة من ثمرات المجتمع المتحضر، وثمرة من ثمرات النجاح في بناء المجتمع بناءً سليماً، قائماً على أسس راسخة وأعراف مستقرة محترمة من جميع فئات المجتمع، وعلاقات متينة بين مكونات المجتمع وأفراده.
ليس هناك أكثر خطورة من انهيار منظومة القيم الجمعيّة، وليس هناك ما هو أشد رعباً، من ضياع المرجعية العليا التي نحتكم إليها جميعاً من جميع الشرائح ومن جميع الأعمار ومن كل الفئات ومن كل الاتجاهات، خاصة في هذه الأوقات التي أصبحت مفتوحة على كل الأفكار والثقافات العالمية، عبر الأثير وعبر شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت بلا ضوابط وبلا حدود.
لسنا بمعرض محاربة الانفتاح على الحضارات والثقافات العالمية ولسنا بصدد التضييق على حرية الاتصال، ولسنا بصدد اتبّاع سياسات الشكوى والتذمّر، بقدر ما نريد البحث في قضية مهمة وخطيرة، كيف نحافظ على منظومة القيم الجمعية، وكيف نبني المرجعية الاجتماعية العليا، التي تمنع التفكيك والانهيار، وكيف نبني ذواتنا وشخصياتنا وعقولنا القادرة على التمييز، وكيف نعلّم أبنائنا المعرفة المعيارية القادرة على الرؤية السليمة والتقدير السليم، بلا وصاية، وبلا تضييق وبلا مصادرة للعقول والشخصيات.
نحن أمام معضلة حقيقية، لا يكفي في مواجهتها الشعارات والجمود على المقولات، بل لا بد من النزول للواقع ومعرفة ما يدور والإطلاع على الحقائق والتفاصيل التي قد تكون مروّعة، في ظل الغفلة العامة، وفي ظل العجز عن مسايرة العصر، وفي ظل ضياع الجيل وضياع الهوية وضياع الثقافة الجامعة، وفي ظل الانصراف الجمعي والطاغي نحو السياسة ومقتضياتها ومآلاتها وأساليبها، ونسيان عملية بناء الجيل التي تتسم بالبطء والهدوء والرويّة والعلمية بل يجب أن نعترف أنها عملية شاقة ومملّة، في ضوء التطور المذهل للعوائق والمشكلات التي تعترض التنشئة الاجتماعية الصحيّة بكل أبعادها ومستوياتها.
في ظل طغيان الحديث بالشأن السياسي والاستغراق فيه، وكذلك الاهتمام بالشأن الاقتصادي المتدهور، قد يجعل الاهتمام بالبناء الاجتماعي ضئيلاً وهامشياً وغير مغرٍ، ولا يجلب الأضواء، مما جعل القوى التي تتبنى منهج البناء المجتمعي والتغيير الإنساني عبر التمسك بمبدأ إعادة بناء الإنسان الصالح، تنصرف إلى الشأن السياسي بطريقة غير متوازية، أثرت تأثيراً بالغاً على مخرجات المجتمع التي تظهر جلياً بمواصفات الجيل الجديد.
ينبغي قرع الجرس أمام أصحاب الشأن من المسؤولين وأصحاب القرار أولاً، ومعهم المعلمون وأساتذة الجامعات، وكذلك القوى الاجتماعية التغييريّة، والكتّاب والمفكرون وأهل الفن والأدب بأننا أمام مشكلة اجتماعية حقيقية، ينبغي أن تكون محط الاهتمام البالغ في العمل والأنشطة، والمناهج، والأعمال الفنية والأدبية في المدارس والجامعات وجميع مؤسسات المجتمع المدني، ولا بد من التعاون في هذا المجال بين الجانب الرسمي والشعبي بلا أدنى عائق من خلاف سياسي أو فكري.
حفظ المجتمع، وإيجاد البيئة النظيفة للأجيال، وصيانة الشارع والمؤسسات من الجريمة وعوامل الانحراف، هدف جمعي كبير ينبغي أن يكون محل عناية جميع القوى وجميع الاتجاهات الفكرية والسياسية بلا استثناء.
a.gharaybeh@alarabalyawm.net
العرب اليوم