بعيد انعقاد "انابوليس" بساعات تحدث الرئيس الاميركي في مؤتمر صحفي عن "الحاح دول عربية على اشراك سورية في المؤتمر" وهذا الالحاح العربي – بحسب الرئيس الاميركي – هو الذي احضر الوفد السوري الى ميريلاند وليس "الاعتراف الاميركي بدور سوري حيوي في المنطقة.اذن لم تكن واشنطن مرحبة بحضور الوفد السوري لولا ان هناك احد القادة العرب عبر عن حرصه على اشراك سورية، وبالتالي اضطرت واشنطن على ارسال الدعوة الى دمشق خصوصا وان المؤتمر يعد احدى الاوراق السياسية التي ينوي الجمهوريون استثمارها في الانتخابات الرئاسية ضد خصومهم التقليديون "الحزب الديمقراطي.
من هنا نفهم الدلالات العميقة للتحرك الدبلوماسي الاردني الاخير باتجاه الانفتاح على دمشق ومن هنا ايضا نستطيع قراءة اسباب تسريب الوثيقة الاميركية التي تعود الى عهد الرئيس الاميركي الاسبق ريتشارد نيكسون التي تفيد بان الاردن طلب من واشنطن مطلع السبعينات ضرب سورية لان الاخيرة شكلت تهديدا للاردن.
واشنطن ليست واحدة والاصوات السياسية هناك ليست متماهية ولا تشكل اوركيسترا تعزف نغما واحدا وبالتالي فاذا كان لمؤتمر انا بوليس اصدقاء في واشنطن يريدون للمؤتمر ان ينجح فان اخرين في تلك العاصمة لا يختلفون كثيرا عن موقف رافضي المؤتمر لدينا ويتمنون مجيئ اللحظة التي يتم فيها اعلان نعي المؤتمر.
يبدو واضحا ان الاستثمار في الوثائق لاسباب سياسية جلية هنا والتردد الاميركي في دعوة سورية لحضور المؤتمر ما كان ليتم حسمه لولا "الالحاح" العربي على توجيه الدعوة لدمشق وها هي الوثيقة يتم تسريبها لا لشيئ سوى لاظهار الاردن وكأنه ينتهج دبلوماسية تتناقض مع مصالحه العليا – أي دعم سورية في المحافل الدولية في حين ان الاخيرة لديها تاريخ من "العداء" للاردن.
تتلاعب واشنطن بالوثائق وتحاول اثارة مخاوف في غير مكانها لدى الاردنيين والهدف الاساس يتعلق في محاولة اعادة تعريف "العدو المحتمل " للاردن بحيث يحاول الذين وقفوا خلف تسريب الوثيقة وضع سورية مكان اسرائيل في موضوع "مصادر التهديد للاردن".
لنعد الى تلك المرحلة أي الى مطلع السبعينات: لقد كانت دمشق على بوابة انقلاب عسكري بين جناحي البعث هناك، صلاح جديد المغامر والمعادي للاردن نظاما وكيانا وبين الاسد الذي لا يرى في الفوضى جنوب بلاده مدخلا للتدخل في الشؤون الداخلية لدولة شقيقة وهي الاردن، واحتدم الصراع بين الجناحين وكان "جديد " يضغط بهدف التدخل العسكري في الشأن الاردني دعما للانقلابية الفوضوية في حين لم يكن الاسد ليثق بجدية الانقلابيين وبدوافعهم لذلك شكل التدخل العسكري الفاشل على الحدود الشمالية للاردن بوابة لسقوط تيار "جديد" ونجاح لتيار الاسد حيث سميت حركة الاستيلاء على السلطة ب"الحركة التصحيحية" وهي تصحيح لمسار حزب قومي وتنظيفه من الميول المغامرة والمعادية ، في المحصلة ،للاردن:
اذن تلك الوثيقة التي تم تسريبها تتحدث عن نظام بائد في سورية وليس عن النظام الحالي الذي تطورت علاقاته لاحقا مع الاردن وصولا الى توحيد المناهج المدرسية وتسهيل حركة الاشخاص والبضائع وكأنها تنساب في فضاء اقتصادي واحد.
لقد حاول اصحاب فكرة تسريب الوثيقة اثارة المخاوف الاردنية في حين ان من يقرأ تاريخ تلك المرحلة يتأكد ان الاردنيين كانوا يشعرون وقتها بالامتنان للقيادة السورية التي رفضت التدخل في الشأن الداخلي الاردني في حين يشعرون بالريبة لتوقيت نشر تلك الوثيقة.
ثمة استنتاجات يمكن التقاطها من المشهد برمته:
اولا: لم يكن الانفتاح الاردني على دمشق ليأتي برغبة اميركية، بل بالعكس كان تحرك الملك باتجاه دمشق بعكس الرغبة الاميركية التي تريد احكام الطوق على الشقيقة سورية.
ثانيا: لدى واشنطن رغبة عارمة في بناء اسوار عالية بين العواصم العربية؟، وهي المعيق الاول لبناء نظام عربي متماسك قائم على التوافق بالحدود الدنيا.
ثالثا: تتنازع في واشنطن وجهتا نظر تتعلقان بالاولويات الاميركية في المنطقة، واحدة ترى ضرورة تحقيق تسوية سياسية مقبولة بين الاسرائيليين و الفلسطينيين ، واخرى ترى الاولوية بحل "عسكري " للملف النووي الايراني، الاولى يحتاج تطبيقها لاحداث انفراج في الاقليم يبدأ بالتوافق في لبنان عبر الانفتاح على دمشق واقناع الاخيرة بالابتعاد عن ايران والانخراط في التسوية السلمية ، اما الثانية فترى في سورية عدو يتوجب اطاحة نظامه.
في المحصلة فان تسريب الوثيقة يعد ، بصورة ما، تزكية للدبلوماسية الاردنية التي ترى في دمشق عمقا لا مصدر تهديد وهو ما لا يتوافق بالضرورة مع الرؤية الاميركية ، بمعنى ان الصداقة الاردنية الاميركية لا تملي علينا سلوكا سياسيا محددا تجاه الجوار العربي، وهذا استنتاج قد لا يرضي اصحاب الجملة الثورية هنا كما لا يرضي صقور واشنطن الذين غربت شمسهم هنا وهناك.
samizbedi@yahoo.com