المال الأسود يتوسع ويتجذر
جهاد المنسي
26-12-2012 03:49 AM
الأصل في الانتخابات أن يدلي الناخب بصوته بحرية، بعيدا عن أي مغريات مالية، أو ضغوطات عشائرية وجهوية وطائفية وإقليمية، أو توجيهات من أي نوع كانت لانتخاب هذا المرشح أو ذاك.
والأصل في الانتخابات أن يذهب الناخب إلى صندوق الاقتراع لانتخاب الشخص الذي يرى فيه قدرة رقابية وتشريعية، وإحداث التغيير المنشود والإصلاح المطلوب.
والمؤمل أن تصل إلى قبة الرقابة والتشريع شخصيات تعرف أبجدياتهما، وتعلم أنها عين المواطن على المسؤول، وصوته تحت القبة، فلا تبتغي إرضاء هذا أو ذاك، ولا جهة دون غيرها، ولا تتمترس خلف قضايا ثانوية أو مكتسبات مادية، بل تتلمس حاجة العباد بدون خطب ود الحكومات.
دعونا نعترف أنه عبر السنوات الماضية تراجع منسوب التشريع والرقابة في مجالس النواب السابقة بفعل عوامل مختلفة، كان من بينها توسع ظاهرة المال الأسود الذي عمد إلى استخدامه مرشحون (أصبح بعضهم نوابا) لتأمين الوصول إلى قبة التشريع والرقابة. وهذا أفسد العمل البرلماني وزاد من مثالبه، فبات المواطن لا يثق بمجلس النواب، واهتزت صورة المؤسسة البرلمانية إلى درجة أحدثت إرباكا تشريعيا ورقابيا بات ظاهرا، وأصبح مطلب حل مجلس النواب يحضر عند كل مفصل سياسي.
خلال السنوات المنصرمة، أصبح المواطن بعد فترة من إجراء الانتخابات يكشف العيب الانتخابي الذي حصل، ويلمس أن بعض من وصل إلى سدة القبة ويتحدث باسمه بعيد عنه بأميال. وبات المواطن يلمس أيضا أن بعض المشرعين جاءوا بطرق ملتوية (تزوير وخلافه) بعيدا عن إفرازات صندوق الاقتراع، وبعضهم الآخر جاء من خلال مال أسود دفعه مسبقا ثمنا للوصول إلى قبة البرلمان، وهو ما كان يعني للنائب مشتري الصوت الانتخابي الذي أوصله إلى القبة أنه لا يحق للناخب محاسبته على مواقفه أو أفعاله، لأنه دفع مسبقا ثمن مقعده.
وحتى لا نساوي الصالح بالطالح، ولا نظلم تجاربنا الانتخابية الماضية، فإن من الواجب القول إن هناك نوابا وصلوا إلى قبة التشريع بفعل تواصلهم مع قواعدهم الشعبية، ومن خلال أصوات حقيقية حصلوا عليها.
بفعل تلك التراكمات التي شوهت تجاربنا الانتخابية السابقة، انقلبت الصورة؛ فبتنا نسمع ساسة ومراقبين ومؤسسات مدنية وجمهور المواطنين يعلون الصوت للمطالبة بحل مجالس النواب (السابقة)، فيما الأصل أن تحرص تلك الفئات والشرائح على وجود المجلس باعتباره عين الشعب وصوته، غير أن التدخلات التي كانت تجري ويتم بموجبها تغيير رغبة الناخب، والمال الأسود الذي تجذر خلال السنوات الماضية، ساهما في قتامة الصورة، وخلخلة الثقة بالمؤسسة التشريعية.
الآن، نحن جمهور الناخبين، مدعوون إلى انتخابات جديدة لفرز مجلس نيابي جديد في الثالث والعشرين من الشهر المقبل. وقد أكدت الدولة مرارا وتكرار على نزاهة العملية الانتخابية، وإبعادها عن أي تدخلات أو توجيهات من أي جهة. وما يتم حتى الآن من إجراءات، ومن فتح المجال لكل الجهات المحلية والدولية والعربية الرقابية للمشاهدة وقول كلمتها فيما يجري، دليل على صدقية ما تعهدت به الدولة عبر الهيئة المستقلة للانتخاب التي أثبتت حتى اللحظة جدية وحزما في التصدي لأي تدخل.
بيد أن ما يقلق حاليا هو توسع ظاهرة شراء الأصوات والذمم، من خلال المال الأسود. وهذا من شأنه، إنْ توسع بدون ردع جدي من قبل الدولة بكل أجهزتها، إفساد العملية الانتخابية، وبالتالي إنجاب مجلس نيابي مشوه؛ مجلس لا توجد لديه المكنة بأن يكون عين الشعب ولا ضميره، وبالتالي تتوسع فجوة الغربة والثقة بين المواطن ومؤسسته التشريعية.
الوقوف متفرجين على المدرجات، ووضع الكرة بكامل استدارتها في ملعب الهيئة المستقلة للانتخاب وحدها لا يكفي، ولا ينقذ العملية الانتخابية؛ فالأمر جد خطير، وظاهرة المال الأسود إن توسعت كفيلة بتشويه صورة المجلس المقبل وتلطيخه قبل أن يباشر مهامه.
(الغد)