بكر خازر يكتب : كم مرة كنا سنكون او لا نكون ؟؟
26-12-2012 12:23 AM
ديمقراطيات 56 ، 89 ، 2013
معادلة الرحلة الديمقراطية
الديمقراطية الأردنية نشأت مع بدء تكوين الدولة الأردنية ، وهي في مكوناتها حراك صعب عبر محطات معقدة ، ولكنها ديمقراطية ينفرد الأردن بها من دون ديمقراطيات العالم وهي قد مضت في وجهين أساسين :
الوجه الأول : ديمقراطية ما قبل البرلمان الثاني في الدولة الأردنية عام 1950 _ أي قبل قرار وحدة الضفتين في 24 نيسان 1950 _ وقد تميزت بأنها ديمقراطية وطنية أردنية تتناول الشأن الأردني أولا ،وتركز على الشأن القومي بوجهة نظر وطنية واحدة تقودها أحزاب شرق أردنية وبرؤية واضحة الاختلاف فيها بين من هو اشد أو اضعف في تناول المسائل القومية .
الوجه الثاني : ديمقراطية ما بعد وحدة الضفتين ، وهذه تميزت بإضافة منبر جديد الى المنبر الأردني الخالص وهو المنبر الفلسطيني الشقيق الذي اتخذ من السياسة الأردنية والبرلمان الأردني واجهة لخدمة القضية الفلسطينية ومعه أيضا المنبر الأردني الذي تجاوز كثيرا على قضاياه الوطنية ،بل احدث اختلافا وتنازعا ما بين المهمة المستحيلة في تحقيق التوازن بين الشأن الوطني الداخلي وبين تيار آخر له قضيته ودولته المنتظرة بعد تحرير أرضه ، والحقيقة أننا عشنا برلمانيين برأسين وان بدا الظاهر انه برلمان أردني واحد ولكن الحقيقة والفعل الإجرائي غير ذلك ، ونجح البرلمان الأردني رغم تلون الأحزاب والعقائديات في ان يؤدي رسالته الوطنية ورسالته القومية ولكن لا يمكن ان نصف أننا عشنا ما بعد وحدة الضفتين استقرارا برلمانيا بل تصارعا وتنازعا وحراكا طغى الشأن القومي فيه على الشأن المحلي.
ومن خلال مراجعة مسيرتنا البرلمانية وبالتحديد بعد قرار وحدة الضفتين عام 1950 ،دفع الأردن ثمنا باهضا لمواقفه القومية ، لأن ليس كل من أخلصت له هو بالمخلص لك ، ولعل الإفراز الأول لهذه المسيرة ما يتلخص بوقائع برلمان عام 1956م ، وهذا غيض من فيض :
برلمان عام 1956م
أصبح الأردن مسرحا للأحزاب الاشتراكية والناصرية والبعثية والشيوعية وما تشاكل منها من قوميات لم تر في البلاد الأردنية أكثر من منبر تمتطيه لتنفذ ما تبغي وتريد من اجندات تحيد عن كل الأهداف القومية الأصيلة إلا هدف واحد وهو السيطرة على الأردن ليكون المسرح المباح لهم ليفعلوا ما يشاؤن وبالطريقة التي يشاؤون دون اعتبار لشيء اسمه ( الوطن الأردني ) أو حتى اعتبار لاسم ( المملكة الأردنية الهاشمية ) الذي أصبح هذا الاسم هدفا للقضاء عليه من قبلهم.
وسار المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه وسط حقل من الألغام بلا مسافات بين اللغم والآخر ، عدو من الغرب مع سلسلة من الاعتداءات على الحدود الأردنية والقرى الآمنة وأبرزها مذبحة قبية عام 1953، أبواق الإعلام انفتحت على مصراعيها من الجارة سوريا والجارة مصر تهاجم باستمرار هذا البلد ، ونشاط حزبي داخلي يتحرك بتوجيهات خارجية وقد تغلغل في الجيش مع تجنيد عدد من قادته للسير في انقلابين معا : انقلاب سياسي وآخر عسكري ، ودعوات للمناداة بانتخابات على أساس التعددية السياسية والأحزاب وتشكيل الحكومات البرلمانية .
سار الحسين يرحمه الله بخطة متوازنة لتجنب التهلكة التي يريدها هؤلاء ،لأن أهدافهم لا يمكن ان تنفذ إلا بنشر الفوضى والاضطراب ،فواجه الحسين يرحمه الله الواقع بحكمة بدءا من خطوة تاريخية كبير بتعريب قيادة الجيش العربي الأردني في آذار 1956م ، فجرت الانتخابات النيابية في شهر تشرين الأول عام 1956م بحرية ونزاهة ، وفاز الحزب الوطني الاشتراكي بأغلبية برلمانية ، وكلف الملك الحسين يرحمه الله عبدالحليم النمر الحمود لتشكيل الحكومة كفائز من الحزب الوطني الاشتراكي ، ولكن اعتذر لأن للحزب رئيسا هو الأولى بتشكيل الحكومة رغم انه خسر في الانتخابات النيابية وهو سليمان النابلسي ، فكلفه الملك الحسين بتشكيل الحكومة رقم 37 من 11 وزيرا ستة من حزبه وثلاثة مستقلين وواحد من البعث الاشتراكي وواحد من الحزب الشيوعي .
تشكلت هذه الحكومة في ظروف صعبة وحرجة للغاية : فقد كان العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة في أوجه والحرب دائرة بشراسة في القنال ،وإسرائيل قد احتلت سيناء وكان الجيش الأردني على أهبة الاستعداد للتدخل لنصرة مصر . أما الوضع الداخلي فقد كان أكثر تعقيدا لان خيوط الانقلاب السياسي بزعامة سليمان النابلسي والانقلاب العسكري بزعامة الضباط الأحرار أصبحت أكثر قوة مع كون سليمان النابلسي الذي يتلقى تعليماته وأوامره من الخارج هو رئيس الحكومة، ومارس دوره بمثل دور رئيس وزراء بريطانيا أو إسرائيل ، مع سيطرة كاملة للحزب على حقائب الداخلية والدفاع والخارجية والمالية ، لقد أراد جلالة الحسين طيب الله ثراه تحقيق التوازن السياسي وإفساح المجال لإرادة الأحزاب ان تسهم بقوة في التصدي للتحديات الخارجية وأيضا تحييد الهجوم الشرس من ( الاعدقاء ) ،كان وضعا صعبا مقارنة مع ما نعيشه اليوم الذي هو ليس بأكثر من زوبعة في نصف فنجان ، وتوجهت ديمقراطية 56 للسير في الأردن نحو المعسكر الاشتراكي والشيوعي ، وقررت الحكومة إلغاء المعاهدة الأردنية البريطانية ، في الوقت الذي لم تتوقف عملية تنفيذ المؤامرة الكبرى التي استهدفت ( المملكة الأردنية الهاشمية ) وتحويلها الى ( الجمهورية الأردنية ) التي تم تجهيز علمها وكتابة دستورها حسب قول الملك الحسين في كتابه مهنتي كملك .
انتهت محاولات سليمان النابلسي والضباط الأحرار بقوة أردنية داخلية صادقة منعت تداعيات الموقف، وكانت تجربة ديمقراطية 56 فاشلة في نتائجها وناجحة في مقدماتها ، وربما سليمان النابلسي يظهر بيننا الآن في أكثر من وجه ليعيد المسيرة ، ولكن مع اعتبار حالة وعي وطني كبير الآن تتصدى لكل هذه المحاولات .
لا أريد ان استذكر قصة شهامة ورجولة ( سلامة سعيد السعودي ابن الطفيلة ) عام 1956م وهو من مرتب الحرس الملكي حينها وهو بطل حادث درامي و شاهد على جزء من هذه الأحداث.
ديمقراطية 89
الديمقراطية ما بين عام 1950 الى عام 1989 كانت ديمقراطية الضفتين ، لكن ما بعد قرار فك الارتباط 31 تموز 1988 عدنا الى ديمقراطية شرقي الأردن ، ولكن لا زال المسرح يعج بنفس اللاعبين وبذات التوجهات ، وواجه الأردن حالة محدودة من الاضطراب حينها ،وكان استحقاقا دستوريا إجراء الانتخابات النيابية بعد زوال الظروف التي كانت تمنع إجراءها ، وتوجهت البلاد من جديد نحو التعددية السياسية الكاملة ،وإلغاء الأحكام العرفية ،وتمت الانتخابات وانعقد المجلس ولكن لم يكن بالمقدور الوصول الى حكومة حزبية لصعوبة تشكيل ائتلاف معين ، ولكثرة الأحزاب التي انتقدها جلالة الحسين يرحمه الله حين قال ( الزحام يعيق الحركة ) .
ولم تكن الفترة من 1950 الى 1989 كافية لتطوير التجربة الديمقراطية الحزبية ولعل ابرز الأسباب هو حرب 1967 خاصة ان آخر انتخابات أردنية قد كانت في نيسان 1967 ، ومن المفترض ان ينهي المجلس ولايته في عام 1971 ، ومرت البلاد في محاولات للتعويض وإجراء انتخابات فرعية داخلية وغيرها ولكن كل هذا لم يكن بديلا عن انتخابات برلمانية كاملة الى ان كانت في عام 1989م ، وكانت تجربة غنية أنتجت برلمانا قويا .
ديمقراطية 2013
ما بعد 1989 شهدت المنطقة أحداثا صعبة مثل أحداث العراق والحرب عليه ، وتطورات على الساحة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو ، ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية عام 1994م ، ولكن لم يغب الأردن عن الساحة البرلمانية إلا في عهد إحدى الحكومات ولمدة أربع سنوات تقريبا . ثم دخلت المنطقة بما يسمى بالربيع العربي ، وهذا الربيع أشبه تماما بظروف عام 1956م ، وحدث التغيير في دول حولنا وغيرها ، ولكن نحن كنا ولا زلنا سباقين في تحقيق الإصلاح ومؤسسية الدولة تلك التي احتاج إليها أهل الربيع العربي ، وبدأ جلالة الملك عبدالله الثاني حراكا واسعا ركز فيه على الشباب والقوى السياسية لبناء خطة التغيير التي تقود نحو الأفضل ، ودائما جلالته يدعو الى نهاية للحكومات القصيرة والى البدء بتشكيل الحكومات البرلمانية ، وان أي تغيير لا يمكنه ان يتم إلا من تحت قبة البرلمان ،وهذه من أهم ملامح ديمقراطية 2013 التي تدعمها إجراءات تمت فعلا من خلال الحوار الوطني ،وأثمر ذلك بصدور قانون الانتخاب الجديد وقانون الهيئة المستقلة للانتخاب وقانون المحكمة الدستورية ، ولا اعرف ان كان هناك ضمانات أكثر من هذه في أي نظام انتخابي في العالم ؟؟ ولكن لا ادري ان كان هناك إنسانا أردنيا بمثل مواصفات إنساننا الأردني الذي يتميز بأنه صاحب العزة والشهامة والرهان عليه في المرحلة القادمة لأنه المسؤل عن نجاح التجربة الديمقراطية الجديدة وهو الضامن الحقيقي لنجاح العملية الانتخابية .
ديمقراطية 2013 هي تجربة وكأنها محصلة كل التجارب السابقة ، ورؤية عصرية بقلب مفتوح نحو المشاركة السياسية الفاعلة للجميع ،لا استثناءات ولا اقصاءات فيها ، ولكن من يمارس حقه الانتخابي بطريقة غير شرعية فهو سيسهم في وصول من لا يستحقون الى البرلمان ، شهد الأردن اكبر عملية تسجيل للمرشحين في تاريخه ،ووصلنا الى تطبيق ديمقراطية عصرية مبتكرة ، ولكنها لن تكون النهائية ، لان من ينتقدها عليه ان يبادر للوصول الى القبة لإحداث التغيير المطلوب ،ومن هم خلاف ذلك فهم من سكان القلعة التي يرون الناس عبر فتحات وكوات الرمي ولا احد يراهم ..
ديمقراطية 2013 هي ديمقراطية النور والوضوح.. ولكن لا زال البعض يريد تخييم الظلام ..
والآن نستطيع ان نرسم معادلة جديدة لرحلة الديمقراطية الأردنية قد ابتدأت برحلة المجالس التشريعية وعدم الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ، الى الحياة البرلمانية مابين عام 1947 الى عام 1950، ثم رحلة البرلمان المشترك الواحد بين الضفتين من عام 1950 الى عام 1989م ،وبعدها رحلة الفصل بين الضفتين من عام 1989 الى ما قبل برلمان 2013م ، أما الآن فهل سنعود فعلا الى برلمان 1947م قبل وحدة الضفتين بعد إعلان فلسطين دولة بصفة مراقب في الأمم المتحدة ، ، وهل من استثمار سياسي وطني لهذه الحالة الآن بعد ان وصلنا الى الدولة الفلسطينية المستقلة التي تأخر ظهورها 62 عاما من عام 1950 ؟
مراحل تاريخية صعبة عشناها ، انتقلنا من المرِّ الى الأمر ،ومن الخطر الى الأخطر ، وكم مرة كنا سنكون فيها أو لا نكون
فهل ستكون لنا العبرة .. وان نقبض على بلدنا بقوة لا تلين ...................