بالرغم من أنّ الدستور المصري حصل على الأغلبية الجيّدة من أصوات المقترعين في الاستفتاء (قرابة 64 % بحسب المؤشرات الأولية) -ما يدفع عربة المرحلة الانتقالية خطوة أخرى إلى الأمام، بانتظار الانتخابات التشريعية- إلاّ أنّ حجم الخسائر الضخمة التي أصابت جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين ومعهم القوى الإسلامية الأخرى، خلال الفترة الأخيرة، هو أيضاً كبير جداً!
لن أقارن بنتائج استفتاء آذار (مارس) 2011 على التعديلات الدستورية بـ77 %، ما يعني نزولاً مقداره أكثر من 10 %، إذ إنّ الخسائر – في ظني- أكبر من ذلك بكثير. وما إصرار نسبة كبيرة من الناس على تمرير الدستور الراهن، إلاّ حرصاً منهم على الخروج من الحلقة المفرغة، وتحقيق مزيد من الاستقرار والسلم الأهلي، حتى لا يعلق المصريون في دواليب "المرحلة الانتقالية".
أخطأ "الإخوان" كثيراً! مردُّ ذلك أنّهم لم يخرجوا من عقلية التنظيم وحساباته، ومن منطق الصراع الذي طغى على العقود الماضية مع القوى الأخرى، إلى بث الروح الوطنية الجامعة، وإدماج مشروعهم في بناء الدولة، لا إدماج الدولة في مشروعهم السياسي!
لم يدرك "الإخوان" خطورة المرحلة الانتقالية وضرورة الوصول إلى تفاهمات حقيقية مع القوى الأخرى، بل وتجنب الانزلاق إلى شهوة السلطة وجبروتها؛ فخسروا بسبب هذا السلوك شريحة كبيرة من أصدقائهم وحلفائهم في المشهد. وهو ما كان يمكن تجنّبه لو أنّ المنطق الذي ساد لديهم ليس الاستئثار والمغالبة مع الآخرين.
صحيح أنّ هذا حقهم، فهم حزب سياسي يسعى إلى السلطة كغيره من الأحزاب الأخرى؛ لكن في الظروف الطبيعية، بعد استقرار المشهد الديمقراطي وعبور المرحلة الانتقالية. أمّا خلال هذه المرحلة، فإنّ هذه الروح ستؤدي إلى الفوضى والاستقطاب، وضياع رأس المال سعياً للربح، بخاصة وأنّنا ما نزال أمام أسئلة كبرى معلّقة في المعادلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية، أبرزها سؤال العلاقة بين الدين والدولة!
خطأ الإسلاميين الأكبر، بخاصة السلفيين، يتمثّل في عدم الفصل بين الجانبين الدعوي والسياسي؛ إذ دخلت المساجد على خط الدعاية السياسية لتأييد الدستور، وتمّ توريط الدين في صراعات سياسية، وسمعنا من يكفّر ويهاجم بشدة الأطراف العلمانية والليبرالية الأخرى، ويتحدّث بوضوح عن إقامة "دولة إسلامية"، وفقاً للتصوّر الأيديولوجي لدى هذه الحركات، مع أنّ ما تعلنه جماعة الإخوان المسلمين في خطابها وبرامجها هو القبول بالديمقراطية بوصفها نظاماً نهائياً للحكم. وهو ما بثّ روحاً من القلق مرّة أخرى لدى طيف واسع من القوى السياسية.
مرّة أخرى، ليس الإسلاميون وحدهم من أخطأ، بل الجميع ارتكبوا خطايا، وهنالك من ارتكب حماقات أكثر منهم. كما هنالك –أيضاً- روح انتهازية سرت لدى أغلب النخب والقوى السياسية، إنّما الحديث هنا عن الإسلاميين حصرياً لأنّهم خسروا أكثر من غيرهم في هذه المرحلة، وكان الرهان عليهم بأن يكونوا أكثر ذكاء وخبرة وحكمة، حتى يفوّتوا الفرصة على "الثورة المضادة" و"القوى العميقة" كي لا تنشر الفوضى والاحتراب الداخلي، لكن للأسف هذا ما حدث فعلاً.
بانتظار الانتخابات التشريعية، المطلوب من الإسلاميين العمل على ترميم المشهد الداخلي، وصون السلم الأهلي، وترسيم معالم خطابهم السياسي والفكري مرّة أخرى، بعد الخلط الكبير الذي وقع جرّاء حالة الاستقطاب. فهنالك من القوى الإسلامية الحليفة للإخوان من يعلن بوضوح بأنّ المطلوب هو أسلمة الدولة والمجتمع، وإقامة ديمقراطية دينية على غرار الحالة الإيرانية، وهي التي شهدت في السنوات الأخيرة فشلاً ذريعاً، في الوقت الذي تتطلّع النخب السياسية والمثقفة العربية إلى المستقبل عبر تجربة العدالة والتنمية التركي، الذي يقيم معادلة أكثر عقلانية وواقعية في المصالحة بين روح الدين وضرورات العصر. فأيّ الرهانات سيربح؛ الإسلامية الديمقراطية، الديمقراطية الدينية، أم الفوضى؟
(الغد)