لله درّ الشاعر الساخر إذ غرّد بقوله:
كأننا والماء من حولنا ...... قوم ٌجلوس ٌحولهم ماءُ
هذه معادلة التجديد والإصلاح الذي تدور في فلكها الحياة السياسية في الأردن، فقد أصبحت المسألة بمنزلة اللعبة الساخرة لكنها تفيض باللؤم والضرر، فالشعب يصرخ شاكيا باكيا والإصلاح يلهيه بالذي أبكاه ، ولكن بثوب جديد، وسيبقى يدور في فلك الجرح والجارح ، ولا يستجدّ منه أو له سوى الصراخ والعويل .
لقد رزح المواطن الأردني عقودا تحت نير الفاسدين ، ومرّت السنين وهو يشير إليهم في الغرف المغلقة حتى فتح البوعزيزي -رحمه الله- نافذة اللسان ليخرج من كوّة الجبن إلى ما يشبه الشجاعة، ولكنه سرعان ما انقلب إلى سذاجة وبلاهة، عبّرت عنها المسيرات الملتحية وغير الملتحية، فالفاسق والقانت سيّان في جهنم الضياع .
ومن المؤسف أن ترى الشعب يطالب ، وتعود إليه مطالبه عقوبات من جنس ما عاناه، فهل خرج الناس في الشوارع ليعيدوا سَدَنةَ الفساد ، ويدوروا بهم في رحى المنصب ليقابلوهم بتوبة فاجرة؟؟؟ لماذا لم يثمر حراك الشعب شيئا ملموسا سوى حناجر تورّمت من حمأة الهتاف وشعارات مجّت نفسها؟؟ ما الذي تغير في المعادلة السياسية ؟ وما الجديد ؟ لقد مسك زمام الإصلاح دهاقين الفساد ، فهم الذين يملأون الساحة بصخبهم ، وهم الذين يشكلون الأحزاب التجارية، وهم الذين يريدون تشكيل المجلس النيابي بمقاس أمعائهم المتورّمة، وهم الذين يشكلون القوائم الوطنية التي ربما تشكل الحكومات القادمة. وهم الذين يحركون المال هنا وهناك، وهم الذين يحاكمون بعضهم فالمتهم قاضٍ والقاضي متهم، وهم الذين يجمّلون ما يريدون ويبقبّحون ما لا يريدون ، والإعلام بأيديهم مطواع.
ولا مندوحة هنا من التحذير بأن تكون الانتخابات القادمة فرصة لتجديد دماء الفساد، وميدانا لتدريب ناشئته على المراوغة والمماطلة، ليبقى ابن دولته دولة ، وابن معاليه معالي ، وابن عطوفته عطوفة، وليستقر المال والكرسي في مستقر فسادهم، وليذهب الشعب إلى الجحيم.
والسؤال الغريب هنا ، هل عَقِم الشعب الأردني عن إنجاب غير هؤلاء ؟ وهل لدى هؤلاء عصا سيدنا موسى ، وطبّ سيدنا عيسى ليتخلّدوا في مناصبهم وليورّثوا وزرهم لأبنائهم وأحفادهم ، حتى تحولت المناصب في الأردن إلى "حواكير " عائلية . نعم لقد تمخّض الجمل فولد فأرا. ولقد تعصّر الشعب الأردني فولد ناهبيه من جديد.
أما الانتخابات فيا لها من معضلة تعيي عن الفهم بدءا من قانون الانتخاب ،وانتهاء بالذمم المهترئة التي تسرق الضمائر وتعيش في كنف التزوير، ولعل ما شهدناه قبل أيام من احتجاز بعض المترشحين لآلاف البطاقات ضاربا هيبة الدولة بعرض الاستهتار، وكأن الهيئة المستقلة للانتخاب لا ترى ولا تسمع، وكأننا قطيع من الخراف نتلهّى بالتعويض من علف المحروقات ، ولا شأن لنا بمثل تلك البطولات الانتخابية التي تهتك عرض النزاهة لتفرز لنا مجلسا معادا بالتدوير الفاشل المفضوح.
وكل ذلك السوء يصحبه الكلام القاتل ، والندوات والتصريحات التي لم تبقِ في الفضاء مجالا لترددات الخبر، حيث انقلب الوطن إلى محاضرة مغلقة وندوة مستمرّة ، يجترّ فيها السياسيون الحديث المريض ويشغلون الناس به، ليأكل الناس من الكلام ويشربوا منه ، وليشعلوا المدافئ لأطفالهم به، وليعيشوا على بركات دولته ومعاليه في تصريحاته التاريخية.
رحم الله المتنبي ، إذ يقول:
أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها... ويسهرُ الخلق جرّاها ويختصمُ
نعم ينام الفاسدون ملء جفونهم عن فضائعهم ، ويسهر الأردنيون وهم يناقشون تحليلاتهم وتصريحاتهم وشعاراتهم ، يختصمون بين " مع أو ضد" ، ويبدّلون بين مواقع الفاسدين ، من النيابة إلى الوزارة ، إلى قيادة أحزاب وغيرها . وما زالت الجفون تغمض على هناء النائمين .