أشار بيده مودعا، وغاب في الزحام...
لملمت أولادها الخمسة الذين اتخذوا من ردهات المطار ملعبا بدلا من ساحة البيت التي لم تعد تتسع لشيطنتهم وتحركاتهم. أومأت للتاكسي الذي وقف على بعد خطوات قليلة منها، وبعد حديث مقتضب اتفقا على الأجرة، فالبيت بعيد عن العاصمة التي لم تطأها قدماها سنوات طويلة. وضعت الصغير في حضنها، والأربعة بجانبها محذرة اياهم من اقتراب الباب أو ازعاج السائق الذي تبرم من صراخهم الطفولي.امتعضت كثيرا حين حدثها عن السفر قبل أربعة أشهر، وعقد العمل الذي وصله بعد محاولات كثيرة بذلها للحصول على فرصة عمل طالما حلم بها،، لكنها سرعان ماهدأت، عندما لمحت بعينيها الراتب المجزي الذي سيتقاضاه. وبعملية حسابية سريعة في ذهنها، وهذا ماتتقنه جيدا منذ أن كانت طالبة على مقاعد الدراسة، ادركت أن خلال سنوات أربع أو خمس تستطيع أن تسور البيت، وتسدد القرض، وتنهي بناء الغرفة الصغيرة بمنافعها المستقلة التي قررت أن تجعلها لابنها الكبير عندما يلتحق بالجامعة. وبامكانها أن تقوم بتشطيب الطابق الثاني، وشراء بعض الأثاث المتبقي وتركيب المطبخ الأمريكي الذي كانت تتمناه منذ أن رأت جاراتها وأخواتها يزين منازلهن بالمطابخ الأمريكية. وتستطيع بكل بساطة أن تشتري خزانة ملابس وطاولتين وكرسيين لغرفة ابنتيها اللتين توسلتا اليها منذ انتقالهم للمنزل الجديد أسوة بصديقاتهن وغرفهن الخاصة. تمادت في أحلامها، فأغلقت عينيها ندما عندما عزم على السفر...
وصلت الى المنزل، دفعت أجرة التاكسي. بدأت تحضير العشاء رغبة في التخلص من مشاكسات أولادها وصراخهم وخلافاتهم الطفولية على الألعاب والكتب والتلفزيون. وفي التاسعة أمرتهم بالنوم واعدة اياهم أن تصحبهم غدا في زيارة ممتعة للحدائق خاصة انه عطلتهم الاسبوعية، وتشتري لهم ملابس جديدة وأحذية وساندويشات شاورما التي يعشقونها.
تناولت "الموبايل" تطمئن على زوجها ورحلته وأحواله والشقة والشركة الجديدة و أصدقائه الذين انتظروه في المطار, ثم أغلقته رغبة في لحظات هدوء بأمس الحاجة اليها بعد ارباكات ومشاكل وزوار طيلة الفترة الماضية.
أدارت المسجل، وارتدت قميص النوم، وتسللت الى السرير بنشوة غريبة لا تشعرها بالوحدة التي اعتقدت أنها قد تحس بها ...
تقلبت في الفراش واضعة يدها على المخدة التي بجانبها... تهيأ لها ان حالة البكاء ستزورها بعد قليل... لكنها لم تفعل.
لامت نفسها، وغضبت لتصرفها الأرعن وعدم قدرتها على البكاء، لم تكذب عندما اسرَت لنفسها ان غيابه لن يغير من الأمر شيئا... منذ متى كان هنا أو هناك؟ كم احتاجته ولم تجده بحجة عمله الذي لا ينتهي، ولقاءاته التي لا تعرف عنها بتاتا.. توسلت مرارا ليخفف عنها، يصفعها بشغله وساعات العمل المملة... وجوده جسدي لا أكثر... ورحيله لن يغير من تفاصيلها شيئا... حضوره وسفره سيان..