شخصياً, لا أستسيغ بعضَ توصيفات يطلقها بين فينة و أخرى كتّاب في معرض توصيفهم لمؤسسات الدولة الأردنيّة و شخوصها.
مؤخراً ازدحمت مقالات محدودة بمثل ذلك، حتى لقد ظننت للحظة أنّ كتّابها يقرءون في قاموس واحد أو أنّ بعضهم يمارس النقل الجامد للكلمة التي قد لا يعرف كنهها أو معناها, و الهدف تكريس التوصيف و تحويله إلى لغة سائدة.و اللافت أنّ مثل هذه التوصيفات "المستعربة" كبيرة أو بعيدة عن الحالة, و هي إذ تُقْرأ, تثير في النفس مشاعر غريبة و مختلطة, لكنّها تُشعرك أنّ مروّجيها يدورون في فلك ليس منّا، و لا يشبهنا, و الأغرب أنّه يقدَّم كواقع يجب أن يُقْبل و يُشاع.
لا أحبّ المقدّمات الطويلة و المموّهة، على طريقة كاتبة اعتادت إثارة الجدل قبل الدخول إلى صلب الموضوع, و لا أرغب، هنا، في ملامسة الأشياء على طريقة آخرين، كما لا أحبّ الدخول فيما لا أفهم كما يحدث عندما أقرأ لكاتب متخصّص في استحضار و ابتكار المصطلحات، فأقول:
قد يَفرض التطوّر الطبيعيّ للمجتمع إفرازات جديدة, لكنْ بتسميات مختلفة, و مَنْ لا يدرك هذا التطور ربّما يفوته فهم تلك التسميات, و إلا كنّا كمن يدور في حلقة مفرغة أو يفضّل مخاطبة النخب أو يظن أنّه في صلب دائرة الحراك، بينما هو ثابت في مكانه لم يتحرك منذ وقت من دون أن يدرك.
التحوّلات في المجتمع الأردنيّ و من حوله أسقطت كثيراً من رموز و أفكار و مدارس لم تعد تَصْلح لمثل هذا الوقت, و مَن يقول بأنّ خيارات الملك عبد الله الثاني في رجاله يجب أنْ تشبه خيارات الملك الراحل الحسين مخطئ؛ فرؤساء وزارات الأمس قد لا يصلحون لمناصب اليوم، و لا الوزراء كذلك. و أزعم أنّ رئيس وزراء ما في سنوات السبعينيات أو حتى الثمانينيات سوف يُصاب بالعجز إنْ عاد لتولي المنصب، ليس لضعفٍ فيه, و لا لقصور في شخصه؛ بل لأنّ المفاهيم تغيرت, فما صلح ونجح في هاتيك السنوات ليس بالضرورة أنْ ينجح اليوم؛ لاختلاف الظرف و الواقع و الخطاب و أسلوب الإدارة وتقييم الأشياء. أضف إلى ذلك الفجوة التي نشأت بين الزمنين. خيارات اليوم في الشخصيات التي تقود - في ظنّي - تأخذ معايير أبعد من مجرد الولاء و الوفاء و الإخلاص, إلى التفاني في العمل و الابتكار و الإنتاج، تبعاً لمتطلبات المرحلة التي يحتاج البناءُ فيها رؤساءَ و وزراءَ بمواصفات غير تلك التي تقدِّم الولاء على كل شيء، في ظروف كان الولاء فيها مطلوباً بينما هو اليوم مسلّمٌ به.
التغيير سائر، و قد أخذ إيقاعاً سريعاً، و مثال ذلك ابنك و ابني, ابنتي و ابنتك؛ فهذا النمط في التفكير و التقييم ليس هو النمط الذي نشأنا أنا و أنت عليه, مع التطوّر الهائل في تكنولوجيا الاتصال والمعرفة و المعلومات, و التعليم مثال صارخ على ذلك. فكم كنّا نطرب و نقفز نشوةً عندما كانت بعض الشخصيات سواء من كانوا في المسؤولية أو مَن هم خارجها, يسقطون قبضاتهم قويّةً مدويّةً على الطاولة في تحدٍ لموازين القوى, في تلك الأوقات - بغض النظر عن فداحة الثمن - إمّا بحثاً عن شعبية أو تسجيلاً لموقف سرعان ما يتبيّن مدى الوهم و الإيهام الذي بُنِي عليه. ترى، لو عاد ذات المشهد في هذا الزمان، فهل سيعيد أولئك إسقاطَ قبضاتهم أم أنهم سيمسكون بها في جيوبهم؟ و هم إنْ فعلوا, فهل ذات الصدى وذات النشوة سيتكررّان؟ لا أظنّ ذلك. و حتى لا أُتّهم مسبقاً بنخر الروح الوطنية "معاذ الله", ليس المقصود من المثل السابق هو تكريس ما يحلو للبعض أنْ يقول بأنّنا على امتداد الوطن "مهزومون"؛ لكنّ القصد هنا هو في حجم التحوّلات التي أشرتُ إليها سابقاً, و في النظرة الواقعية للأشياء التي يتّسم بها جيل كامل التقط أطراف لحظة مضت، بينما ينظر اليوم بملء العدسة إلى الإطار كاملاً.
لا أريد هنا أن أغرق في تفاصيل التحوّلات وشواهدها، فمَن لم يدركها فذلك شأنه، و مَن لا يريد أنْ يعترف بها فذلك شأنه أيضاً. و في هذا المجال علّني أصيب إذ أضيف توصيفاً جديداً إلى القائمة لمن فاته إدراك المتغيرات، و ليعذرني هؤلاء إنْ وصفتهم بــ" الرجعيون الجدد".
من التحوّلات التي لم يُحْسن عدد من المعلّقين قراءتها, هي التغيّر المثير على صفة الوزير, خصوصاً في دولة ليست الأحزاب فيها مؤسسات قويّة, حتى إنْ كان للأحزاب قوة في تشكيل الحكومات، فإنّها اليوم تفضّل أنْ تدفع بالمهنيين فيها لمنصب الوزارة؛ فالتنظير السياسيّ وحده ليس بإمكانه أنْ يضيف شيئاً، بل إنّه مع الوقت يصبح اسطوانة مشروخة و مملة ما لم يصاحبه نتائج, كذلك الأمر بالنسبة لمجلس النواب "قليل الدسم".
و إذا كان معيباً على الوزراء أنْ يكونوا من قطاع الأعمال, فبماذا نفسّر التحوّل المثير لرجال السياسة و الأحزاب إلى البزنس؟ و في الذاكرة البعيدة شواهد على ذلك نغفل عن ذكرها، فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر، و في الذاكرة القريبة، كذلك، شواهد لم تزل قائمة بين ظهرانينا اليوم, أم أنّ أولئك إنْ رجعوا إلى الحكم تسقط عنهم "تهمة" "البزنس" ليصبحوا بين ليلة و ضحاها سياسيين, أو من الوزن السياسيّ الثقيل في سدّة الحكم أو أنّ عودتهم تعيد "الليبراليون الجدد" أو "المحافظون الجدد" أو التكنوقراط إلى معاقلهم؟
لا أدافع عن وزراء البزنس كما يحلو للبعض وصفهم, فالخلط بين المال و السلطة فيه شبهة ما لم تكن هناك ضوابط، و العقبى على الأداء و على النتائج؛ فالوزراء "البزنس" في المسؤولية متاحون للرقابة، فهم تحت دائرة الضوء، مع أنّ رئيس الوزراء قطع سلفاً الطريق أمام التكهنات؛ إذ طلب إلى الوزراء إشهارَ الذمّة الماليّة و قطع الصلة بالأعمال الخاصة والشركات, في بادرة أخذت جانب الشفافية و النوايا الجيدة. فلا تأخذكم بالوزراء رحمة إنْ أخطئوا أو خالفوا, لكن لا تخطّئوهم سلفاً.
و لا أدافع عن الجغرافيا في تشكيل الحكومات, لكنّني أحبّ أنْ يأتي اليوم الذي ننتهي فيه من المحاصصة على أساس الجغرافيا والجهة في كل المناصب. و لِما لا يكون مجلس الوزراء كاملاً من قرية أو مدينة أو حتى عائلة أو عشيرة واحدة ما دمنا متفقين على تكريس الاحتكام إلى معايير الكفاءة و الأداء؟ فكم جاءت الجغرافيا بعديمي الكفاءة وكم فعلت أحيانا العكس، لكنّها في كلّ الأحوال طريقة انتهت أسبابُها و مبرراتها منذ وقت طويل.