«لقد عشنا أكثر مما ينبغي»، يقولها صديقي، ففي نحو عقدين من الزمن، ونيف، شهدنا سقوط دول، واختراعات لم يشهد لها التاريخ مثيلا، ورحيل زعماء، ونشوء قوى جديدة، وتغييرات جذرية في مختلف مناحي الحياة، حتى أننا بتنا نشعر أن ثمة تسارعا مذهلا في إيقاع التغيرات البشرية، لم يشهده الإنسان من قبل!.
وسط هذا الضجيج الصاخب، من تدفق بركاني للمعلومات والأخبار، يرنو المرء للحظة صفاء، بلا فيسبوك ولا تويتر ولا فضائيات ولا هواتف، ولكن.. (الآن وأنا أكتب هذه الكلمات يرن جرس الهاتف، فأرد عليه وتتشتت الأفكار، لأعيد لملمتها من جديد!)!!.
حين أحدث أبنائي عن شوق دفين لبيت ريفي بسيط، ودجاجات، ومساحة أرض صغيرة (حاكورة!) مزروعة بما يحتاجه المرء من خضروات بسيطة، وورقيات خضراء، وربما عنزة ونعجة (لزوم الحليب واللبن واللبنة!) ومعرش عنب، وبعض أشجار الفواكه، حين أحدثهم عن هذه الأمنيات البسيطة، يضحكون، ويقولون أن هذا الحلم يعيدك إلى زمن غابر، قديم، فأخرج تنهيدة من أعماق الأعماق، رانياً ببصري إلى أيام بعيدة، لم أعشها، بل عاشتني بكل شظفها، ولكن بحلاوة نائية، نأيَ قمر الحصادين، الذي يرسل نوره فيضيء عتم البيادر، رغم بعده الفضائي عنهم، أيام، كنت آوي واخوتي إلى بيتنا مع أذان المغرب، وكنا أحيانا نصارع النعاس للوصول بالكاد إلى أذان العشاء، كي نصلي ونأوي للفراش قبل أن تبلغ الساعة العاشرة مساء، وأنظر اليوم حولي، فأرى أن مصابيح البيت لا تنطفىء ليلا، فثمة في كل ساعة من ليل من هو مستيقظ، حتى مطلع الفجر: حياة صاخبة، وركض مستمر إلى اللاشيء، وأجهزة كهربائية مضاءة، وأخبار، وهواتف لا تكف عن الرنين!.
اشعر، أحيانا أننا نركض سريعا، وبلهاث لا ينقطع، ولكن دون أن نبرح مكاننا، كمن يركض على قشاط آلة رياضية منزلية، عرق وجهد وكيلومترات مقطوعة، ولكن مكانك سر، أو اركض!.
هل عشنا فعلا أكثر مما ينبغي؟.
إنك لا تنزل إلى النهر مرتين، هكذا تحدث أحد الفلاسفة، فالماء الجاري يتغير كل لحظة، كما تتغير القلوب والمشاعر، وكما نتحرك بجهد وعرق وتعب ونحن لا نبرح مكاننا، نجلس ساكنين أمام شاشة الحاسوب فينقلنا إلى عوالم نائية، ونلهث ونتعب ونتصبب عرقا، دون أن نحرك ساكنا في عضلاتنا، وتلك معادلة لو أدركها أينشتاين لربما استنبط نظرية أخرى أشد مضاء من نظريته النسبية!.
عشنا -فعلا- أكثر مما ينبغي، ليس اعتراضا على ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، معاذ الله، ولكن ما يبرر هذا العيش الفائض عن الحاجة، ويسوغه منطقيا، أننا أدركنا بعضا من الكرامة والكبرياء، ورائحة انتصار لم يكتمل بعض، انتصار يقاومه أعداء الداخل والخارج على حد سواء، من المرتبطين بجني ثمار الخراب، وحلب ضرع الهزيمة، فالحمد لله أن امتد بنا العمر لكي نرى أول خيوط الفجر، الذي ثبت أنه لم يكن كاذبا!.
hilmias@gmail.cim
الدستور