جرت العادة في الزمن الملتبس أن يوصف من يأتي على ذكر " السلطان " بخير , بإحدى صفتين , فهو إما شاعر يبحث عن غنيمة في العرف الجاهلي , أو هو منافق يبحث عن مغنم على حساب أحزان وضنك العامة , ويعلم الله أن لا هذه ولا تلك حاضرة هذا الأوان !, وبعد .
فلم يكن الرجال الرجال الذين نفتقدهم اليوم كثيرا , والذين وضعوا الدستور الأول للدولة الأردنية وفي الزمن الصعب الذي لا يعرفه الكثيرون من الجيل الحديث الراهن , الا رفعة في الخلق والتدين والبراءة وسمو النظرة وسعة الأفق , عندما حصنوا الملك شخصا ومقاما من كل تبعة ومسؤولية , وجعلوا تلك المسؤولية منوطة بالوزراء , عندما أرسوا نصا يقول بأن أوامر الملك الشفوية والخطية لا تعفي الوزراء من مسؤولياتهم , وفي ذلك قمة الحرص والتحوط لضمان سلامة القرار , والوزير الذي يرى أن في الامر ضررا ما هو أمام أحد خيارين , فإما أن يرفض ويستقيل , وإما أن ينفذ ويتحمل المسؤولية !, بمعنى أن أولئك الرجال الرجال الذين ربما رحلوا جميعا وهم أثرياء في كراماتهم وفقراء في مالهم , أدركوا بحس إنساني وأخلاقي وسياسي وفكري ووطني لا يدان معنى " مقام الملك " ووجوب أن يبقى مصونا من أي مساس وتحت أي ذريعة كانت وفي ظل أي ظرف كان , ولهم في ذلك فلسفتهم المعمقة وقوامها , أن " مقام الملك " هو "أساس الدولة " وعصبها الرئيس , فإن طاولة الأذى !, كان ذلك إنذارا جادا بهدم الدولة وزعزعة أركان وجودها كدولة ووطن !.
في هذا السياق لم نشهد طيلة عهود المملكة منذ العهد الأول وحتى الآن أن وزيرا إستقال لسبب كهذا , أو أن مسؤولا رفيعا أخر فعل شيئا من هذا , أي أن المسؤولية المباشرة عن أي ضرر قد يكون وقع خلال رحلة المملكة كلها منذ تأسيسها وحتى الآن , تقع مباشرة على عاتق الوزراء وهم عصب "البطانة " وليس على الملك شخصا ومقاما أية مسؤولية كانت !, وبمقتضى " الدستور " الذي يحدد المبادئ والمسؤوليات والصلاحيات على إطلاقها .
في ضوء هذا الفهم الواضح , فإن الملك شخصا ومقاما لا بد وأن يكون محط عناية كل مواطن يريد للدولة أن تبقى وأن تستمر وأن تتطور , فهو وفي الحالة الأردنية تحديدا , عصب الارتكاز الأساس في البناء الكلي لمنظومة الدولة ,, وأي مساس بهذا العصب يعني أن هناك خللا كبيرا سيحدث , ومن هنا فنحن نحترم وبتحفظ للمطالبين بالتخفيف من صلاحيات الملك حقهم في إبداء الرأي , ونختلف معهم جوهريا بالتنفيذ , ليس لأننا نجامل أو نمارس الرياء وما شابه , وإنما لأننا نرى في ذلك مساسا بعصب الدولة وتغييرا جوهريا في معادلاتها الراسخة وأخذا لها وبها نحو المجهول الذي يمكن التنبؤ بأضراره الجسيمة مسبقا , وليس لأردني أن ينكر أو يتنكر لحقيقة كهذه , خاصة في ظلال ظروف محلية وإقليمية ودولية غاية في الدقة والحساسية والخطورة , ومن يعتقد وبحسن نية أو غير ذلك أن الدولة الأردنية الراهنة قابلة للإفلات من مربع " الدولة الأبوية أو الرعوية " وبسهولة , فهو إما مخطئ أو متهور أو ربما غير ذلك , وليس سرا أن العرب ووفقا لموروث وثقافة وتاريخ , هم جميعا رعايا في أوطانهم أكثر منهم مواطنين , وليس ذلك بمثلبة أبدا , وإنما هي ميزة منبعها مبدأ التكافل الإجتماعي ومفاهيم الأسرة والعائلة والحي , والتي تعتبر بمجموعها مفردات راسخة في الحياة العربية منذ فجر التاريخ.
ونذهب الى مقولة " البطانة الصالحه " وبعضنا يدعو بها ولها ويرفض في الوقت ذاته أن يكون جزءا منها , وفي ذلك نهج محير يصعب فهمه عندما ترتفع أيدينا بالدعاء الى الله جل في علاه أن ييسر لولي الأمر بطانة صالحة , ثم نمارس النكوص عن أن نكون منها مشاركين وصانعي توجهات وسياسات وقرارات !!.
والبطانة الصالحة في الحالة الأرنية مسألة نسبية , فقد جرب الملك الحسين رحمه الله بطانات كثيرة , بعضها كان صالحا وبعضها الأخر طاوله الضعف , ولهذا مرت البلاد بمحطات صعبة عديدة إختلفت فيها الإجتهادات والآراء , وإحتاج الأمر منذ العام 1956 الى أكثر من عقدين حتى إستقرت الأمور , وهكذا هو الحال اليوم , فالملك راس الدولة , صفحة بيضاء ولا شك يتمنى لو تطلع شمس الغد على الأردن وقد غدا أفضل بقاع الكوكب على الإطلاق , ففي هذا راحة باله هو على الأقل إن لم يكن راحة بال شعبه , ويقينا فإن الأمر يحتاج الى وقته كي يستقر ويستقيم على نحو ما يتمنى الملك ومعه الشعب , مع حتمية أن يرافق ذلك مراجعة مستمرة للنهج وشخوصه , للتعرف على المحطات كافة , الصحيحة والخاطئة , وتدارك الأمور بحكمة وشجاعة وصراحة ودونما تردد , بما في ذلك البطانة ذاتها , فإن كانت أصابت فأجرها على الله , وإن كانت أخطأت فبيوتها بها أولى وأكرم لنا ولها .
خلاصة القول الناجز , أن الملك شخصا ومقاما والعرش عموما , أمانة في عنق كل أردني وأردنية , وليس لأحد أن ينكر أو يهادن في إجماع الجميع هنا على الأرض الاردنية , إزاء حقيقة أن " العرش الهاشمي " هو اساس البيت وسقفه معا , وليس لهذا البيت وجود للزمن المنظور إلا بقوة العرش العصي على الاهتزاز لا قدر الله , وإلا فنحن جميعا بما في ذلك اجيال ستأتي , في خطر يصنعه مستقبل مجهول لا أحد منا يستبينه !, ولم يعرف تاريخ البشرية شعبا هدم وطنه وهو بيته بإسم الإصلاح ونقمة على وقوع الخطأ. والله من وراء القصد.