تداعيات رفع الدعم عن المشتقات النفطية بدأت تتدحرج، وتمس بدرجة رئيسة الشريحة العامة من المجتمع، لكنّها تصيب بمقتل الطبقة الوسطى، التي تشكّل العمود الفقري للسلامة الوطنية والاستقرار الاجتماعي. وبالمناسبة أوّل من استخدم مصطلح "السلامة الوطنية" (على صعيد الحوار الوطني هنا) هو تقرير صادر عن كلية الدفاع المرتبطة بالقوات المسلّحة، قبل قرابة أربعة أعوام، وجاء ذلك في سياق تحديد أحد أبرز مصادر التهديد الجديدة للأمن الوطني، وفي مقدمتها الأبعاد الاجتماعية الناجمة عن السياسات والأوضاع الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد.
اليوم، بدأ أبناء الطبقة الوسطى يشعرون بالآثار القاسية؛ زيادة في رسوم المدارس الخاصة والجامعات الخاصة، وبأسعار المواصلات، وبالسلع المتنوعة والمتعددة، وبالضرورة شركات التأمين سوف ترفع رسومها، والمستشفيات الخاصة، والأدوية، وسينعكس ذلك بصورة أكثر وضوحاً على معدّل الإجارات (مع بدء سريان قانون المالكين والمستأجرين)، والعقار، وهكذا دواليك.
دعونا نقف عند أحد هذه المجالات؛ وهي المدارس الخاصة – فهي "مثال كشّاف" لحجم الأزمة وعمقها- إذ ترفع الرسوم وتفرضها على الأهالي من دون حسيب أو رقيب، وكأنّنا أمام "عقد إذعان"، في حين يضطر الآباء الباحثون عن جودة تعليم أبنائهم، أن يقبلوا بذلك بلا نقاش، فكل ما في الأمر أن تصلك رسالة قصيرة عبر الهاتف تبلغك بأنّ أقساط ابنك للعام المقبل ارتفعت بمقدار 30 % فقط!
ربما نفهم أنّ الكلفة ارتفعت على المدارس، التي يمتلك أغلبها هامشاً جيّداً من الربح (فهي في نهاية اليوم جزء من القطاع الخاص الساعي إلى الأرباح والكسب)، لكن بالضرورة لم تصل إلى درجة الـ30 %، لكن لغياب أي نوع من أنواع الرقابة، ولضعف التنافسية في مجال التعليم الخاص، وغياب الجودة عن كثير من المدارس الخاصة، تكون النتيجة هي اضطرار الأهل لقبول الرفع الجديد، لأنّ البديل محدود جداً، مع أنّ ذلك يفوق كثيراً قدراتهم المالية!
إذا أضفنا إلى المدارس باقي المجالات، الإجارات والرسوم؛ فإنّ الطبقة الوسطى، بشرائحها المختلفة (العليا والوسطى والدنيا، من يتراوح دخلهم الشهري بين 800 دينار إلى 2000) هي في طور الانهيار الآن، تحت طائلة العجز عن عدم القدرة على اجتراح معادلة جديدة بدلاً من المعادلة القديمة التي سقطت سقوطاً ذريعاً مع الارتفاعات الأخيرة للأسعار، فكيف لنا أن نتخيّل وضع هذه الطبقة، بعد إقدام الحكومة على رفع أسعار الكهرباء؟!
المضحك المبكي أنّ السيد رئيس الوزراء يظنّ أن مشكلة قرار رفع أسعار المحروقات تتمثّل فقط بمدى شجاعة أي رئيس وزراء على اتخاذ القرار، وهو ما أقدم عليه هو وعجز عنه أقرانه السابقون! من دون أن يوسّع نطاق تفكيره بالأزمة للوصول إلى أنّ القصة تتمثّل في عدم تقديم حزمة متكاملة ومقنعة واجتراح معادلة جديدة للتوازن الاقتصادي- الاجتماعي في البلاد، سواء على صعيد مكافحة التهرب الضريبي أو خفض النفقات الجارية وإقرار قانون ضريبة عادلة تصاعدي، وإعادة النظر في قدرة الحكومة على رقابة القطاع الخاص،..الخ.
صحيح أنّ الطبقة الوسطى في أميركا والغرب (كما يردّد الوزراء والمسؤولون لدينا) تدفع ضرائب وتواجه ظروفاً اقتصادية صعبة، لكنّها مرتاحة من أهم ما يعنيها ويهدّدنا هنا، فالمدارس الحكومية هناك أفضل من أفضل المدارس الخاصة لدينا، بأسعار رمزية، والتأمين الصحي جيد، والمواصلات مؤمّنة، بمعنى أنّ الأمن الاجتماعي ليس مهدّداً، كما هي الحال لدينا اليوم!
هذه الآثار ستنعكس أيضاً بصورة أكثر خطورة إلى الاقتصاد الوطني، إذ سيحدث ما يسمّى بـ"تضخم دفع الكلفة" (بسبب انخفاض القدرة الشرائية وليس ازدياد الطلب)، ويؤدي إلى "الركود التضخّمي"، الذي سيمس الأغلبية العظمى، فهل يملك الرئيس أجوبة عن هذه الأسئلة التي تتجاوز دعوى الشجاعة في اتخاذ القرار إلى طرح تساؤلات تمس المجتمع والدولة والأمن والاقتصاد؟!
m.aburumman@alghad.jo
الغد